علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

«الولاية» بين القرآن وفلسفة التاريخ (2)

 

محمود حيدر
مملكة الإنسان الكامل.. إلهية
مرتبة الوليّ هي مرتبة الإنسان الكامل الذي هو ملك العالم التكوينيّ. لكنّ مملكته لا علاقة لها بالاعتبارات السياسية الظرفية والعارضة، ولا بالنصر السياسيّ الزائل، ولا بالفكرة التي تقول إن الأكثريات هي دوماً على حقّ بذريعة أنها هي التي تصنع التاريخ. ذلك بالطبع لا يضادّ حقيقة أن التدبيرات الجزئية هي من مهمّة أئمّة الأوان الذين انعقد بينهم وبين إمام الزمان ميثاقٌ باطنيّ يتلقّون من خلاله الترشيد والتوجيه والأمرة عند كلّ منعطف.
إمام الزمان هو الإنسان الكامل المعصوم، وبما أن هذا الإنسان المفرد هو سببُ وجود العالم الدنيويّ وغايته، فلا يُمكن أن يستمرّ وجود عالم الإنسان من دون إمام. وهذا بالتحديد هو معنى الوجود الغامض الذي يتميّز به الإمام الثاني عشر الغائب عن الحواسّ الخمس، وإدراكات العقل الأداتيّ.
وعليه، فإنّ لفلسفة الولاية ركنين متلازمين لا انفصالَ في وحدتهما: ركن الاعتقاد بالغيب، وركن الأخذ بسببية حركة التاريخ. وهذا مبدأ إلهيّ كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «أبى اللهُ أن يُجريَ الأشياء إلا بالأسباب. فجعل لكلّ شيءٍ سَبباً، وجعل لكلّ سببٍ شرحاً، وجعل لكلّ شرحٍ عِلماً، وجعل لكلّ عِلمٍ باباً ناطقاً، عَرَفه من عَرَفَه، وجهِلَه من جَهِلَه، ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونحن».


وبمقتضى هذين الركنين نرانا بإزاء وصلٍ وطيدٍ بين حركة التاريخ والحقيقة الدينية، وبمعنى أعمق بين المخطّط الإلهيّ للتاريخ وإرادة الناس في درء انحرافات التاريخ وعيوبه. يجري ذلك ضمن جدلية التفاعل الخلاّق بين الفعل البشري المؤسَّس على الصّراط والوحي الذي يسدّده ويؤيّده فلا ينفكّ عنه طرفة عين. هنا، لا يعود عالم الشهادة منقطعاً عن عالم الغيب. كما لا يعود الحضور في التاريخ مفارقاً للغائب المنتظَر. فليس ثمّة انفصال بين الناس وإمام زمانهم. ذلك بأنّ انتظار المخلّص إنما هو انتظار حركة ومجاهدة لا انتظار سكونٍ واستسلام. وبقدر ما يختبر المؤمنون صِلتهم بإمامهم بالقول والعمل، بقدر ما تتحوّل عقيدة الانتظار إلى حضور فعّال في كلّ حقل من حقول النشاط والتضحية والمعرفة. لذا تنطوي منظومة الانتظار الخلاَّق على اتِّساق وانسجام مع سُنّة التاريخ وتطوره. فيها يصير الاعتقاد مطابقاً للواقع، ومن خلالها يُمسي الواقع عين العقيدة، ما دام المؤمنون بنظام السُّنن، وبالهندسة الإلهية للتاريخ، يأخذون بالأسباب التي وصَّاهم بها الحقّ تعالى ليفلحوا، ثم ليبلغوا بواسطتها صلاح أمرهم. وحيث يأخذ المؤمنون بالأسباب الممّهدة للخلاص، لا يعود الإمام الغائب منفصلاً عن الحضور الواقعيّ، بل هو لازمٌ للواقع في كلّ لحظة، يفيض عليه بالتسديد والتأييد والتقريب كلّما تحوّل إيمان المؤمنين بعقيدة الانتظار إلى حركة حيّة وفعّالة باتجاه المخلِّص المنتظَر. ولسوف تتمظهر تلك الحركة الإيجابية الجوهرية بوضوحٍ لا لَبْسَ فيه لدى الآخذين بهذين الركنين وهم يمهِّدون السبيل إلى الغاية القصوى. فإنهم بهذا يتّجهون شطر الالتزام بالولاء الخلاَّق للمكوّن الإيماني والمعرفي والأخلاقي الذي يربط الزمان الفيزيائي بالإمام الغائب. فالاحتدام الذي يُخاض تبعاً لهذين الركنين المتلازمين يفارق الاحتدامات المألوفة، ليتّخذ وضعية يحضر فيها الغائب حضوراً بيّناً في الزمن. وعليه تتحوّل فلسفة الانتظار الخلاّق إلى فقهٍ سياسيٍّ متعالٍ. ذلك بأنه فقهٌ متّصلٌ ومتواصلٌ مع الغَيب، ينمو ويتطوّر ويغتذي بعوامل الديمومة في ميادين المواجهة مع سلطان الظلم. 


مثلث الولاية الخاتمة: وحيانية، عقلانية، واقعية
لعلّ ما يمنح فلسفة الولاية الخاتمة حيويّتها الواقعية، وعقلانيتها، أن الاعتقاد بالغائب المنتظَر كحقيقة تاريخية هو عين ما يُفضي إليه الفقه المؤسّس لها... حيث سيظهر حصاد العمل بمقتضاها عن طريق ربط كلّ ما يجري خلال أزمنة الغَيبة الكبرى، بلحظة الخلاص وظهور المنتظَر. مثل هذا التأصيل العقَدي التي تُجريه فلسفة الإمامة يطابق ولا يغاير ما ذهبتْ إليه فلسفة التاريخ. أي التفسير الواقعي العقلاني للأحداث. فلسفة التاريخ هي فلسفة لا تقبل الفراغ. أي أن التاريخ المبنيّ على وحدة الحضور والغياب، هو سَيْريّة (نعني بـ«السيْريّة» الحركة الجوهرية للتاريخ حيث يتجلّى فيها تواصل الغَيب ووحيه مع إيمان البشر وإرادتهم) ميثاقية تقوم على تكامل أركانها لا على انفصالها وتشظّيها. ولذا فإنّ هذه السَيْريّة التي تنتظم التواصل بين المنتظِر (بالكسر) والمنتظَر (بالفتح)، هي حركة مدركة وعاقلة وبنَّاءة تحيط البداية والنهاية برعايتها وتضبط أحقابها بعروة وثقى. وبقدر ما تتجلّى هذه الحركة في الإرادة والفعل الإنسانيين، بقدر ما يحفّزها منطقها الداخلي لتتحوّل إلى حركة جوهرية مؤيّدة بالعناية والتسديد واللطف. وفي هذا المقام سيكون على الآخذين بهذه الحقيقة، أن يمهِّدوا لظهورها في حركة الزمن من خلال التوفّر على أسبابها وشرائطها القريبة والبعيدة.

إن هندسة التاريخ هي كهندسة الطبيعة مستبطَنة بعناية الخالق. ولسوف يتبيّن تبعاً لفلسفة التاريخ أن العناية الإلهية تتدخّل عبر البشر أنفسهم في مسيرة الحضارات. فالله تعالى موجود في الطبيعة والتاريخ. والتاريخ البشريّ، وكذلك التاريخ الطبيعيّ، مظهران لوجوده. وأن عنايته تعالى مباطنة للتاريخ، ولكنها لا تسيّره إلا عبر الأسباب التي يتولاها الإنسان، ذلك بأن التاريخ خاضعٌ لقوانين حتميّة مَثَلُه في ذلك مثلَ العالم الطبيعي.
والوحي واضحٌ في دعوة الإنسان إلى الأخذ بالأسباب كشرطٍ لتحقق العناية وتلقّي التسديد، لأن قوانين التاريخ مباطنة في جوهرها للمخطّط الإلهيّ. فمَن يأخذ بها وفقاً لهذا المخطّط أفلح بالغاية، وأما من اتّخذ سبيل المغايرة والانزياح لهواه، فقد حَبِطَ مسعاه؛ أكان فرداً أم جماعة أم أمة. وهذا ما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. (العنكبوت:41)
أهمية موضوعٍ حيويّ كالذي سعينا إلى تظهيره أنه يستأنف مساءلات طفحَ بها سماءُ الجدل الكلاميّ على امتداد تاريخ الإسلام، إلا أنه يجيء هذه المرة ليلبّي حاجات معرفية راهنة تفترضها حاضرية الإسلام في العالم المعاصر، مع ما يترتّب على هذه الحاضرية من وجوب تظهير حضارة العدل الإلهيّ وتسييلها في الفضاء الثقافي العالمي...

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة