علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (7)

الثاني عشر: الإنسان الكامل كتجلٍّ لحقيقة المثنَّى:

 

لم ترِد لفظة المثنَّى في الأدب العرفانيِّ على نحو صريح؛ إلَّا أنَّنا سنلقاها مطويَّة في منظومته الوجوديَّة الشاملة، وخصوصًا في تأويليَّات العُرفاء لمَّا تحدَّثوا عن البعد المزدوج للموجودات. فالمثنَّى المستظهِر نصوصهم معادل لتجلّي الواحد في العالم الكثير، وهو مصداق هذا التجلّي في الآن نفسه، أمَّا أصالته فمأخوذة من الواحد ومرعيَّة باعتنائه. وتلك مسألة لا يدركها العقل الحسير[1] مهما دأب على اختبارها بالاستدلال، إذ كلَّما مضى هذا العقل إلى مقايستها والبرهنة عليها وفق قاعدة المقدِّمات والنتائج عادت خائبة إلى سيرتها الأولى. والعارف الذي يقطع جسور الاستدلال يعرف أنَّ مسألة كهذه ممتنعة على الفهم فلا يجد العارف حالئذٍ سوى التأويل سبيلًا إلى التعرُّف.

 

لقد بذلت المنظومة الفلسفيَّة العرفانيَّة جهودًا مضنية للوصول إلى حلٍّ لهذه المعضلة، حيث أخذت المساحة العظمى من مكابداتها. كان التناظر في البعدين الوجوديَّين للموجودات واقعًا في أصل تلك المكابدات التي اتَّخذت مسلكًا متماديًا في التأويل. ذلك ما يبيّنه الفيلسوف المستشرق هنري كوربان في سياق اشتغاله على ما ذهب إليه ابن عربي في هذا الصدد. لقد أشار إلى واحديَّة المنهج الأكبريِّ في فقه التعرُّف على النظام الدقيق الذي يحكم صلات الوصل بين وحدة الحقِّ ووحدة الخلق «فالقول بأنَّ التجلّي الإلهيَّ شيء آخر غير الله – كما يلاحظ كوربان -. لا يعني القدح في ذلك التجلّي باعتباره «وهميًّا»، بل بالعكس تثمينه وتأسيسه بوصفه رمزًا يحيل على المرموز الإلهيِّ، الذي هو الحقُّ، وبالفعل فإنَّ الظاهر هو خيال وتجلٍّ، وفي الآن نفسه فإنَّ حقيقته الباطنة هي الحقّ. إنَّ الظاهر خيال، ويتطلَّب ضرورة تأويلًا للصورة المتجلّية فيه، أي تأويلًا يؤول بتلك الصور إلى واقعها الحقيقيّ. ليس عالم المنام وحده، بل العالم الذي نسمّيه عادة عالم اليقظة أيضًا بحاجة بالمقدار نفسه للتأويل[2].

 

للمثنَّى في المنظومة العرفانيَّة حقيقته المفارقة. هو واحد وكثير في الآن عينه. وحين يصل العارف إلى هذا المقام يكون قد تمثّل ماهيَّته وصار هو عين المثنَّى وحقيقته. ولذا سنرى كيف ابتنى سيره وسلوكه على الغيريَّة الخلَّاقة حيال سائر الموجودات وفي مقدَّمها النوع الآدميّ. ذلك بأنَّه الآن في مقام معرفيٍّ مبنيٍّ على حاضريَّة الله في عالم الاختلاف والكثرة. وما ذاك إلَّا لأنَّ هذه الحاضريَّة المتعالية المعتَنِية في الآن نفسه، تجعل العارف كائنًا راعيًا للمجتمع الإنسانيّ، وليس مجرَّد كائن اعتياديٍّ شأنه شأن سائر البشر. فهو مهاجر إلى الجود الإلهيِّ ليكسب عظمة الإيثار والإنفاق. وما غايته من متاخمة الألوهيَّة إلَّا لتمنحه صفاتها في العطاء والجود والُّلطف. ولذا جاءت حاضريَّة الله في هجرة النظير، حاضريَّة تدبير ولطف، حيث يستوي فيها النوع الآدميُّ بالعدل على نشأة النفس الواحدة.

 

ولمَّا كان مسعانا في هذا الفصل بيان منزلة العارف كنظير للمثنَّى في نظريَّة المعرفة العرفانيَّة، فقد ارتأينا بداية إيضاح ماهيَّته وهويَّته وغايته على الوجه التالي:

 

أ- المثنَّى هو الذي يستوي جناحاه على مبدأ الاعتدال في رؤية ذاته ورؤية العالم من حوله.

 

ب- وهو الآدميُّ الجامع للكثرة الإنسانيَّة، على اختلاف ألسنتها وألوانها ومعتقداتها.

 

ج- وهو صاحب النفس المحترمة، المستخلف في الأرض، وهو بوصفه عارفًا وأصلًا يتحرَّك تحت إشراف الحقِّ الأول وعنايته.

 

د- وهو الذي يقرُّ بأنَّ حقَّ الغير فيه هو حقّ متأتٍّ من فيض الله لا من كهف النفس البشريَّة وأنانيَّتها.

 

وإذا شئنا شرح ما مرَّ معنا فنقول إنَّ التناظر في عالم الاثنينيَّة آيلٌ إلى الاختصام والتشظّي، بينما كلُّ شيء في وحدة المثنَّى محمول على جمع الشمل. ذاك أنَّ زوجيَّة المثنَّى لا تؤدّي وظيفتها إلَّا وفقًا لقانون التكامل والانسجام. وإنَّ إدراك هذا القانون توفِّرُه واحديَّة المثنَّى بوصف كونها سيريَّة امتداديَّة ترتق القطيعة المتوهّمة بين الله والعالم، وتقرُّ بالقيوميَّة الإلهيَّة في الآن عينه. أمَّا مؤدَّى هذه السيريَّة فهي أنَّ الحقَّ خارجٌ عن الأشياء لا كخروج شيء عن شيء، وداخلٌ في الأشياء لا كدخول شيء في شيء.

 

وتبعًا لاستحالة الانفصال بين الوجود والموجود في مقام القيوميَّة الإلهيَّة، يمكن للعارف الآخذ بمبدأ المثنى أن يتدبَّر شأن الخلق بعين الحقّ. ففي هذا المقام المتعالي تغمر الرحمانيَّة كلَّ الموجودات وخصوصًا العالم الإنسانيّ. وعليه يصبح هذا العالم مرعيًّا بمبدأ المثنَّى؛ بحيث يكون كلُّ ما تقدِّمه الذات إلى الغير من عطاء جميل فهو منه تعالى، وما الذات الإنسانيَّة إلَّا واسطة لفيضه وعطائه اللَّامتناهي. هكذا لا تعود ثنائيَّة الذات والآخر محكومة بالتناقض ما دامت موصولة بالألوهة. وعند هذه النقطة من الوصل تنطلق رحلة المعرفة على خطِّ الإستواء والاستقامة. حيث تعرف الذات نفسها ونظيرها على نصاب العدل، ثمَّ لتبدأ سَيْرِيَّة معاكسة من التعرُّف ليعرف النظيرُ نظيره على القدر نفسه من المودَّة والرَّحمة. أمَّا ما يحكم التفاعل في المثنَّى الذي يسكن الآخر والذات معًا، فإنَّما هو مبدأ التحوُّل والتكامل. ذاك أنَّ طَرفَيْه في حالة امتداد وتواصل جوهريَّين بحكم أنَّ نهاية الطرف الأول (الذات) هي بداية الطرف الثاني (الآخر).

 

إنَّ فهم ماهيَّة المثنَّى وهويَّته على مثل هذا النصاب المتعالي، فهمٌ لا يتحقَّق على التمام إلَّا إذا عاينَّاه بعين الحقِّ لا بعين ذاتنا، إذ لا تستقيم الرؤية التوحيديَّة مع الدنيويَّة المكتظَّة بالنقصان، والأنانيَّة، ونكران الجميل. فقاعدة التناظر في الكثرة الخَلْقيَّة هي قاعدة أصيلة ثابتة ينفرد بها الخالق وحده. والخلق المأمورون بتمثُّلها لا ينالون بلوغها إلَّا بالمجاهدة. ولهذه المجاهدة شرائط معرفيَّة وسلوكيَّة، هي من مقتضيات السفر المعرفيِّ المديد في المباحث الإلهيَّة والعمل بمحاسن السير والسلوك. بوصف كونه تمثيلًا حيًّا للانسجام بين الواحد والكثير في عالم الاختلاف.

 

وبسبب من هذا الانسجام يصبح التعرُّف بديهيًّا بين طرفيه المتناظرين كما لو أنه يجري مجرى القوانين التي تنظِّم حركة الطبيعة. ولذا سنجده على “النشأة الأصليَّة للنوع الآدميِّ، حيث يؤالف بين اثنين من أصل واحد. وهو ما نجده في زوجيَّة المثنَّى حيث لا انفصال للأصل، وإنَّما ضرب من تمييزٍ بين كلٍّ من طرفَي الزوجيَّة في الصفة والهويَّة. فكلُّ متقابلين على نحو التناظر، هما نظيران متعادلان في أصل تقابلهما وجهًا لوجه. وبذلك يؤول التناظر إلى مبدأ الإيجاد. فالكون مثلًا يدار بسلسلة من الأنظمة والقوانين الذاتيَّة الثابتة التي لا تتغيَّر. وهذه القوانين والأنظمة هي نظائر متعادلة في أصل ظهورها في الوجود رغم الاختلافات والتفاوتات بين شخوصها وأفرادها.. ويقوم العدل في نظام النشأة الكونيَّة على وجود مراتب مختلفة ودرجات متفاوتة للوجود. وهذا هو منشأ ظهور الاختلاف والنقص والعدم.

 

ولأنَّ التفاوت والاختلاف والنقص في المخلوقات أمور لا تتعلَّق بأصل الخلق، بل هي من لوازم ومقتضيات تلك المخلوقات، فمن الخطأ الظنُّ بأنَّ الخالق فد رجح بعض مخلوقاته على بعض. أمَّا الترجيح فهو الذي يؤدّي إلى نقض العدالة والحكمة فإنَّه من فعل الفاعل البشريّ. أي من المخلوق. أمَّا الذات الإلهيَّة المقدَّسة، فلما كانت وجودًا صرفًا وكمالًا محضًا، وفعليَّة خالصة، فهي إذن، منزَّهة عن تلك الوسائل والأفكار والوسائط، وبالتالي عن كيفيَّات الترجيح التي هي من لوازم الاجتماع البشريّ. ولذا فالعدل ـ بمعنى التناسب والتوازن ـ من لوازم كون الله حكيمًا وعليمًا. فهو سبحانه بمقتضى علمه الشامل، وحكمته العامَّة، يعلم أن لبناء أيِّ شيء مقادير معينة من العناصر. ولذا فهو من يركب تلك العناصر، لتشييد ذلك البناء.

 

وضمن دائرة ارتباط العدل بالحكمة باعتبارهما صفتين من صفات الحقِّ تعالى، يتجلَّى العدل الإلهيُّ من خلال فيضه على كلِّ مخلوق بقدر ما يستحقّ. وعلى قول الفيلسوف نصير الدين الطوسي: لا يوجد حكم لائقٌ غير حكم الحقّ.. ولن يأتي حكم يفضُلُ الحكمَ الحق، وكلُّ شيء موجود قد أُوجد كما كان ينبغي، ولم يوجد شيء لا ينبغي وجوده”.. ولأنَّ لازم الحكمة والعناية الإلهيَّة هو أن يكون للكون والوجود معنى وغاية، فأيُّ شيء يوجد، إمَّا أن يكون خيرًا بنفسه، وإمَّا أن يكون وسيلة للوصول إلى الخير… فالحكمة من لوازم كونه عليمًا ومريدًا، هي توضيح أصل العلَّة الغائيَّة للكون. أمَّا العدالة فليس لها علاقة بصفتي العلم والإرادة، ولكنَّها بالمعنى الذي مرَّ تكون من شؤون فاعليَّة الله، أي أنَّها من صفات الفعل وليست من صفات الذات[3].

 

الثالث عشر: المثنَّى بما هو الرَّاعي الرَّحمانيُّ للموجودات:

 

لئن كان المثنَّى هو في حيثيَّة ما حاصلُ لقاء الغيريَّة في الموجودات، فذلك يعني أنَّ حاضريَّته في الوجود هي نتيجة فعليَّة لاستبدال مفهوم التناقض الوضعيِّ بمفهوم التدافع الإلهيّ. ولذا فهو لا يقوم على قانون نفي النَّفي كما تقرِّر المادّيَّة الديالكتيكيَّة، ولا على قانون التناقض كما وجدت الهيغليَّة، وإنَّما على ما نسمّيه بـ “زوجيَّة التكامل في عالم المثَّنى”… ففي هذا العالم بالذات يولد المثنَّى من دون أن تشوب ولادته شائبة.

 

فلو أوَّلنا المثنَّى في توليده للتناظر الخلَّاق بين الكثرات الوجوديَّة لظهر لنا ما نعتبره مجازًا بـ”ديالكتيك التوحيد”، بحيث لا يعود النظير نقيضًا لنظيره وإنَّما هو سيريَّة امتداد جوهريٍّ للنظائر المتآلفة في ما بينها. وهو ما لا يقدر على إدراك حقيقته إلَّا العارف المقيم في رحاب الألوهة لحظة تلقّيه الرَّحمانيَّة وامتلائه بها..

 

وعليه، لا تعمل النظائر خارج مبدأ المثنَّى.. ولأنَّه متَّصل بالرَّحمانيَّة، لا يرتضي المثنَّى لنفسه أن يكون انشقاق الواحد عن الإثنين، بحيث لو تآلف هذان الإثنان من بعد المكابدة في مشقَّة التناقض، أن يظهر كثالث يروح يستعيد استبداد الأنا بالغير ليصبح أوَّلًا من جديد.

 

لو فعل العارف هذا ما كان ليبلغ السموَّ، ولا تسنَّى له أن يكون له حظُّ المفارقة، ذلك أنَّه محفوظ في محراب المثنَّى، فلا يغادره بأيِّ حال. فالأنا باقية تحتفظ بفرديَّتها واستقلالها، وكذلك الآخر باق ٍعلى فرديَّته واستقلاله، لكنهما إذ يجريان مجرى القربى سوف يُفتح لهما باب الكمال لينالا مقام الحريَّة المؤسَّسة على العدل.

 

في هذا المقام بالذات، سوف يُرى المثنَّى في ضمير الأنا والغير الَّلذين اكتملا بالمثنَّى، ثم توثَّقت صلته بالحقِّ الأعلى. سوى أنَّه لا يفارق الجيرة الحميمة ليستقلَّ بذاته، فهو ممتدٌّ معها على أرض الأخوَّة الفاضلة. وتبعًا لمبدأ الامتداد يصير كلُّ نظير آخرَ في الأنا، وتصير الأنا نظيرًا في الآخر، فيما تتولَّى الرحمانيَّة بعنايتها تثبيت المثنَّى وتسديده. ولذا يدخل كلُّ موجود بحسبه في سنَّة التدافع، بما هي سنَّة عمرانيَّة تمنع الفساد في الأرض، وتؤسّس لإعمار دنيا الإنسان وتيسِّر سبيله إلى السعادة القصوى.

 

بهذه الصيرورة لا يُشتقُّ المثنَّى من ضدَّين: الأنا والآخر. بل هو مما يُشتقُّ منه، لا من سواه، نظرًا لأصالته، وكذلك بما هو مفارق للأضداد. يستطيع الأنا أن يتمثَّل حال سواه ويكونه، بشرط أن يعقد النيَّة على الخروج من كهف الثنائيَّة واحترابها. ففي هذا الكهف تحتدم الموجودات مع ما يغايرها هويَّتها. وحالئذٍ يغدو كلٌّ منهما نقيضين متنافرين لا يلتقيان على كلمة سواء. بل قد يسعى كلٌّ منهما لتدمير نظيره، أو- في أحسن حال –  ليقيم معه توازن هلع لا يلبث بعد هنيهة أن ينفجر لتصيب شظاياه الإثنين معًا. وإذن، لا يولد المثنَّى الكامل إلَّا في مكان ٍنظيف خارج الكثرة المشحونة بالتحاسد وسوء الظنّ. وسيكون له ذلك حين تبلغ أحوال العالم درجة الإختناق. فعند هذه الدرجة لا يعود ثمَّة انبثاق للحقيقة السامية إلَّا حين يفارق النوع الإنسانيُّ جاهليَّته ليصبح معادلًا للصفاء الكونيّ.

 

على هذا النصاب من جمع الظاهر إلى الباطن سيُكتبُ لعالم الموجودات أن يجتاز التناقض ليرى الوحدانيَّة في المثنَّى. وفي هذه الحال يصير كلُّ شيء بالنسبة إليه قابلًا لسَرَيان الزوجيَّة واختلافاتها في الوجود. لقد صار الأمر بينًّا لمن رأى نقيضه قائمًا في ذاته، وفي هذه الحال لا حاجةٍ لأحدٍ من طرفَي الزوجيَّة إلى البحث عن صاحبه في غير ذات زوجه، لأنَّ كلًّا من الزوجين النقيضين قائمٌ في ذات الآخر، وكلٌّ منهما يحسُّ بزوجه، ولولا رؤية كلٍّ من الباطن والظاهر قائمًا في الآخر لما استطاع الإنسان أن يتلاءم مع صروف الدهر، فيحيا النقيض في نقيضه، ليُعدَّ لكلِّ حال عدّته مزوَّدًا من غناه لفقره، ومن صحَّته لمرضه، ومن راحته لتعبه ومن شبابه لهرمه. وإذا كان الفردُ العاديُّ يحيا هذا التناقض فطرةً وسليقةً وطبعًا بحياته النقيضين معًا، فإنَّه على بصيرة من أمره، فكيف حياة أهل الغرام التي لا يعرفها إلَّا أصحابها، ولعلَّ السبب في غيابها عنَّا هو أنَّنا قد تجافينا عن فطرتنا، فلم نعش النقيض قائمًا في ذات نقيضه؟[4]

 

ولهذا كان علمُنا بباطن الشيء يجعلنا نعلم ظاهره ضرورة وبداهة والعكس بالعكس. ولنا في هذا مثال: فلو علمتَ أنّ الحركة في كلّ من الزوجين النقيضين من كلِّ شيء، تنتهي وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، لوجدت أنَّ السبب في ذلك إنما هو من أجل أن تظلَّ مستمرّة دائمًا وأبدًا. فالشيء المتحرّك الذي تنتهي حركته في أحد الزوجين وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، إنَّما هي حركةٌ مستمرَّةُ لا تتوقَّف، وفيها تتمثّل الصلة بين الخالق والمخلوق،- وبين النظير ونظيره-، وذلك في صورة رحمته التي وسعت كلَّ شيء[5]. وفي استمرار هذه الصلة المتبادلة على السواء والتعادل المتبادل، يتجلَّى سرُّ هذا الوجود في صورة قيام النهاية في البداية والبداية في النهاية في كلِّ شيء. فإذا نظرت مثلًا إلى معنى التزاوج الذي يتَّجه إلى الاتصال مستقلًّا عن معنى التجاوز الذي يتَّجه إلى تعدّي الشيء الذي تتجاوزه منفصلًا عنه، وجدت أنَّه ليس إلى تعرُّف أيٍّ منهما من سبيل إلَّا من خلال الآخر.

 

وإذن، فالانفصال محال آخر في مقام القيوميَّة الإلهيَّة. ففي هذا المقام المتعالي تغمر الرحمانيَّة كيانهما معًا، لذا فإنَّهما يثبتان عليها ويتبادلانها بالتعادل والتساوي من دون أن تتخلَّل العمليَّة التواصليَّة بينهما عقدة العطاء المشروط بالأنانيَّة. ذاك أنَّ العطاء في هذه الحال هو عطاء صادر من المعطي الأول، وما تقدِّمه الذات إلى الغير من عطاء جميل فهو منه تعالى وما الذات الإنسانيَّة إلَّا واسطة لفيضه وعطائه اللَّامتناهي. وهكذا لا تعود زوجيَّة الذات والآخر محكومة بالتناقض ما دامت غير مقطوعة الوصل بالألوهة. فعند هذه النقطة من الوصل تنطلق رحلة المعرفة على خطِّ الاستواء والاستقامة. حيث تعرف الذات نفسها ونظيرها على نصاب العدل، ثم لتبدأ سَيْرِيَّة معاكسة من التعرُّف ليعرف النظيرُ نظيره على القدر نفسه من المودة والرحمة. أمَّا ما يحكم التفاعل في المثنَّى الذي يسكن الآخر والذات معًا، فإنَّما هو مبدأ التحوُّل والتكامل. ذاك أنَّ طرفَي المثنَّى هما في تحوُّل مستمرٌّ بحكم أنَّ نهاية الطرف الأول (الذات) هي بداية الطرف الثاني (الآخر).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]– والمقصود به العقل الاستدلالي الذي يدور مدار عالم الممكنات ولا يغادره أبدًا، وهو عقل غير قادر على الامتداد إلى ما فوق أطواره الدنيويَّة. وبذلك فإنَّه كلما قطع شوطًا باتجاه معرفة الحقائق عاد إلى نشأته الأولى فحلّت بصاحبه الحسرة. وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ*ثمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) (سورة الملك الآية 3-4).

[2]– كوربان، هنري- الخيال الخلاَّق في تصوُّف ابن عربي– ص 179 –180.

[3]– مرتضى مطهَّري- العدل الإلهي – ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني – الدار الإسلاميَّة – بيروت – 1997- ص 82.

[4]– محمد عنبر – مقدِّمة لديوان العارف بالله العلَّامة الشيخ أحمد محمد حيدر «النغم القدسي» – دار الشمال – طرابلس – لبنان – 1997 – ص 18.

[5]– محمد عنبر – مقدِّمة لديوان العارف بالله العلَّامة الشيخ أحمد محمد حيدر «النغم القدسي» – دار الشمال – طرابلس – لبنان – 1997 – ص 19.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد