د. جاسم العلوي ..
كارل بوبر والأساس الميتافيزيقي لتطور العلوم
إحدى أكبر الإشكالات الفلسفية عند كارل بوبر تتمثَّل في الحد الذي يُمكن أن نرسمه، ونفصل به العلوم عن الميتافيزيقا. المدرسة التجريبية عالجتْ هذا الأمر بناءً على إيمانها بأنَّ المصدر الوحيد للمعارف البشرية هي التجربة؛ فكل ما يَخْضَع للتجربة يُمكن أنْ نستمدَّ منه المعرفة، وكل ما لا يخضع للتجربة يخرج عن دائرة المعرفة، بل ودائرة الوجود. ومن هُنا، يسهُل أنْ نستنتج على ضوء ما تقرِّره هذه المدرسة أنَّ الميتافيزيقا -وكل المعارف المتعلقة بها- يكون مصيرها العدمية واللامعنى. فليس ثمَّة عالم يزخر بالمعارف والحقائق خارج نطاق العالم الفيزيقي القابل للرصد والقياس. فالمدرسة الحسية-التجريبية تنفي وجودَ عالم وراء هذا العالم المادي لأنَّ معرفته لا تتوسَّل التجربة طريقًا. يُؤرِّخ كارل بوبر لهذه المشكلة المتمثلة في فضاءين من المعرفة: فضاء تحل فيه العلوم التجريبية، وفضاء آخر من المعرفة ربما لا معنى له، تحل فيه الميتافيزيقا إلى زمن الفيلسوف بيكون. ويَرَى بوبر أنَّ الرأيَ السائدَ والمجمع عليه من قبل التيار الحسي من المعرفة أنَّ العلوم تعتمد على المشاهدة والمنهج الاستقرائي، بينما تعتمد الميتافيزيقا على التوقعات العقلية (1).
الواقعُ أنَّ مُعظم النظريات العلمية لم تؤسَّس على المنهجية القائمة على الملاحظة، ثم الفروض العلمية، فالتجربة، وأخيرًا التعميم. إنَّ تاريخ العلوم يبيِّن أنَّ عدداً محدوداً جدًّا من النظريات قد تأسَّس على هذه المنهجية. كما أنَّ النظريات -كما يَرَى بوبر- التي تقوم بناءً على تعميمات استقرائية لا تملك التبرير الكافي لصدقها. كارل بوبر يُميِّز بين نوعين من القضايا: القضايا الشخصية، والقضايا الكلية. الاستقراء يعمل على اختبار عدد معين من القضايا الشخصية، ومن ثم التعميم، فالوصول لقضايا كلية. ويَرَى بوبر أنَّه لا يُمكن لأي عددٍ من القضايا الشخصية أن تنقذ الاستدلال على القضايا الكلية. فليست القضايا الشخصية عنده دليلًا على صِدْق القضايا الكلية، بل العكس أن أقصى ما تفعله القضايا الشخصية هو تكذيب القضية الكلية.
فالنظريات العلمية من هذا المنطلق، لا يُمكن إثباتها، أو البرهنة عليها، بل يُمكن لنا رفضها بالبحث عن قضايا شخصية تكذِّب قيمتها الكلية. إنَّ البحثَ في القضايا الكلية التي هي مُهمَّة العلوم، يتقدَّم لا من خلال استقراء القضايا الشخصية المثبتة لها، بل من خلال حذف القضايا الكاذبة. ووِفْق هذه المعالجة لمشكلة الاستقراء، فإنَّ بوبر يُميِّز بين العلم والميتافيزيقا؛ فالميتافيزيقا عِنْده تقدِّم لنا قضايا كلية لا يُمكن تكذيبها بقضايا شخصية وصفية. إذن؛ يعتقد بوبر أنَّ الحد الفاصل بين العلوم والميتافيزيقا هو قابلية النظريات العلمية للتكذيب؛ فمبدأ التكذيب هو ما يُؤسِّس للفصل بين العلوم والميتافيزيقا، ولا يعني ذلك أنَّ الميتافيزيقا لا معنى لها؛ فالقابلية للتكذيب لا تجعل من العالم غير المحسوس فضاءً معرفيًّا فارغاً، بل إنَّ المقصود أنَّ النظرية العلمية تقبل الاختبار، وبكل الوسائل المتاحة على امتداد الزمان؛ وبالتالي فإنَّ قدرتها على الصمود أمام مُختلف الاختبارات هو ما يمنحها القيمة العلمية. ويُؤكِّد بوبر على القيمة المعرفية للميتافيزيقا وأهميتها للعلوم. فمعظم الأفكار العلمية تنطلقُ من رؤية ميتافيزيقية كليَّة، ثم بالتدريج تتحول إلى قضايا علمية يتمُّ البحث عمَّا يُكذبها من خلال فحص القضايا الشخصية. يقول كارل بوبر -في منطق الكشف العلمي- “أنَّه من الحقائق المسلم بها أنَّ الأفكار الميتافيزيقية البحتة -ومن ثمَّ الأفكار الفلسفية- ذات أهمية قصوى للكوزمولوجيا؛ فمن طاليس إلى آينشتين، ومن الذرية القديمة إلى تأملات ديكارت عن المادة، ومن تأمُّلات جلبرت ونيوتن وليبنتز وبسكوفيك عن القوى، إلى تأملات فارادي وآينشتين عن مجالات القوى، أضاءتْ الأفكار الميتافيزيقية معالم الطريق” (2).
لم يقفْ بوبر عند الميتافيزيقا، وهو عالم له معنى ويُشكِّل أهمية لنمو المعرفة العلمية -كما سُنفصِّل في هذا الأمر ربما في مقال مستقل- بل يَرَى أنَّ الأساطير التي تنتمي لعالم اللامعنى يُمكن أن تتضمَّن عناصر قابلة للاختبار، وتكون مُفيدة للعلوم.
العقل في الفضاء المعرفي للميتافيزيقا
ما هي الفضاءات المعرفية التي يُمكن للعقل أن يُصدر أحكامًا فيها؟ هذه صيغة مُختلفة لسؤال مركزي في نظرية المعرفة؛ وهو: ما هي حدود المعرفة البشرية؟ لكنَّني فضَّلتُ أنْ أستخدم الأسلوب الرياضي في التعبير عن قدرة العقل على إصدار أحكامه في حقل معرفي خاص لقضايا؛ منها ما هو مادي ومنها ما هو غير مادي. ففي الرياضيات والفيزياء يعمل العقل منضبطًا ببنية رياضية معينة في الموضوعات الرياضية والفيزيائية المختلفة. ويطلق على هذه البنيات الرياضية فضاءً؛ ففي الرياضيات مثلا يوجد فضاء المتجهات الذي يُحدِّد خصائص هذه المتجهات، وعلى ضوء هذا الفضاء الخاص بها يُصدر العقل أحكامه التصديقية على مختلف القضايا المتعلقة بها. والنظرية الكمية في الفيزياء قائمة على فضاء خاص يُسمَّى “فضاء هيلبرت”، ويقوم العقل بمعالجة القضايا الكمية المختلفة على ضوء هذا الفضاء. إذن؛ العقل يتحرَّك في القضايا الرياضية والفيزيائية، في إطار البنية الرياضية الأساسية، التي تمَّ تثبيتها كأساس ومُنطلق تنمو منه هذه المعارف وتتطور. ويُمكن تطبيق هذه البنيات باعتبارها فضاءات للعقل على الوجود. فالوجودات المادية وغير المادية تُشكِّل فضاءات معرفية خاصة بتلك الموجودات، بما فيها فضاء العقل نفسه. ومن هُنا، يأتي هذا السؤال المركزي: هل يُمكن للعقل أنْ يُعطي حُكما تصديقيًّا في هذه الفضاءات غير المادية؟ وهل يُمكن الثقة بهذه الأحكام؟
العقلُ البشريُّ يُصنِّف الفضاءات المعرفية، ويتحرك لكل فضاء معرفي بطريقة مختلفة. فهو في العلوم يستخدم الحس والتجربة، إضافة لمقدِّمات تصديقية خارجة عن التجربة كمبدأ عدم التناقض. وفي عالم الميتافيزيقا حيث الفضاء المعرفي الأكبر والأرحب، وحيث دائرة الوجود الكبرى المحيطة بعالم الفيزيقا، يعمل وفق مُقتضيات الواقع المفارق للحس باستخدام التصديقات الأولية للعقل، وعلى ضَوْئها ينمي معرفته بهذا العالم تدريجيًّا بطريقة القياس التي يستلزم صدق النتيجة فيها صدق المقدمة الكبرى، وكذبها كذب تلك المقدمة. وقيمة المعرفة تنبع من مَدَى الالتزام بتطبيق هذه المعارف التصديقية الأولية. ومن هنا، يُمكن للعقل أن يصدر أحكاما موثوقة في الميتافيزيقا كما في الرياضيات، على ضوء هذه المعارف الأولية. أمَّا في العلوم الطبيعية، فيتوقف الحصول على المعرفة الطبيعية بتطبيق هذه المعارف الأولية على التجربة (3). وفي الميتافيزيقا لا يتوقَّف التطبيق على شرط التجربة، بل يتم بصورة مستقلة عن التجربة. ومن هنا، فإنَّ النتائج في الميتافيزيقا تأتي قطعية عندما يعمل العقل في فضائها المعرفي. يقول السيد محمد باقر الصدر: “وهذا هو السبب في أنَّ نتائج الميتافيزيقا والرياضيات نتائج قطعية في الغالب، دون النتائج العلمية في الطبيعيات. فإنَّ تطبيق الأسس الأولية في الطبيعيات -لما كان مُحتاجا إلى التجربة- هيأ شروط التطبيق، وكانت التجربة في الغالب ناقصة وقاصرة عن كشف جميع الشروط، فلا تكون النتيجة القائمة على أساسها قطعية” (4).
وإذا كان بمقدور العقل إصدار الحكم التصديقي الموثوق لقضايا الميتافيزيقا بالاعتماد على هذه المعارف التصديقية الأولية، وحيث يُمكن للمعرفة أن تنمو وتتطوَّر بحسب دقة التطبيق لهذه المعارف على المقدِّمات المنطقية التي تهيئ النفس لإصدار أحكامها. فكيف يتوافر لذهن المعرفة بهذه المبادئ التصديقية الأولية؟!
سنُحاول الإجابة بصورة مُقتضبة على ضوء الحكمة المتعالية، والتفصيل ربما نُؤجله إلى مقال مستقل إن شاء الله تعالى. القوة المدركة عند الإنسان هي جزءٌ من قوى النفس وليس لها وجود مستقل. وفي البداية، لا يمتلك الذهن أي تصوُّر عن الأشياء، وتقوم القوة المدركة بتصوير الواقعيات الخارجية -واقعيات العالم الخارجي- بعد الاتصال المباشر به، وكذلك واقعيات العالم الداخلي النفسي للإنسان. وهذا التصوير هو مُجرَّد صورة لهذه الواقعيات، ولا يبرهن على المعرفة الموضوعية. لكن يتم نسج هذه الصور بعد الاتصال الوجودي للنفس بهذه الواقعيات. إذن؛ الشرط الأساس لظهور صور هذه الأشياء هو اتصال النفس بها اتصالًا وجوديًّا. والاتصال الوجودي للنفس بالواقع يعني أنَّ النفسَ تحصل أولًا على المعلوم دون توسط الصور الذهنية، بل إنَّ واقعَ المعلوم هو عَيْن واقع العلم. وبذلك؛ تتوافر النفس على عَيْن الواقع بالعلم الحضوري الذي ملاكه الاتصال الوجودي به. ثم تقوم القوَّة المدركة بتبديل العلم الحضوري إلى العلم الحصولي عن طريق تكوين صور للواقع الذي كان حاضرًا بذاته لدى النفس، ثم حفظ هذه الصور في الحافظة؛ فالعلوم الحصولية مسبوقة بالعلم الحضوري. يقول السيد مُحمَّد حسين الطباطبائي -رضوان الله عليه- “على أساس مرآتية وكاشفية العلم والإدراك، يصبح الوصول إلى الواقع أمرًا ضروريًّا، يعني أنَّ هناك علما حضوريًّا في مورد كل علم حصولي. إذن؛ على أساس هذا المنظار يُمكن توسعة دائرة البرهان والحصول على نتيجة أكثر عمومية، فنقول: حيث إنَّ لكل علم وإدراك سمة الكشف والحكاية عن الخارج، وهو صورة له يلزم أن يتوافر على سمة الارتباط مع خارجة، وأنْ لا يكون منشأ الآثار. ومن هُنا، يلزم أن تنتهي إلى واقع تنشأ منه الآثار، ويتطابق مع العلم المفترض. أي عين الواقع الذي نشهده بالعلم الحضوري، ثم يؤخذ منه العلم الحصولي مباشرة (عين المعلوم الحضوري مع سلب منشأية الآثار)، أو يؤخذ منه من خلال تصرف القوة المدركة فيه” (5). يفهم من هذا النص أن النفس تشهد عين واقعية المعلوم وآثاره، وذلك بحضوره الجمعي لدى النفس، ومن بعد هذا الشهود تقوم القوة المدركة في الإنسان بصنع صورة لهذا المعلوم بعد سلب الآثار عنه. إنَّ المعارف البشرية الفلسفية أو العلمية إنما قامتْ على قانون العلية، والذي تشهده النفس وهو فرع شهوديتها لذلتها، وهذا الشهود يعطي هذه القانون -العلية- اليقين الذي لا يقبل الشك. يقول الأستاذ محمد رضا اللواتي “بهذا البيان الوجداني، عرفنا أنَّ لنا اطلاعًا على أنفسنا وحالاتها الباطنية، ومن اطلاعنا هذا اكتشفنا نموذجا للعلية في أعماقنا من جهة كيفية تعلق حالاتنا بأنفسنا وتوقفها عليها” (6).
وأخيرًا.. إذا كان لنا أنْ نُشبِّه الوجود بالطيف الضوئي، فإنَّ العالمَ الماديَّ يُشكِّل جزءًا صغيرًا جدًّا من طيف الوجود الأكبر غير المادي. تماماً كما أنَّ الطيف المرئي من الضوء هو جزء صغير جدًّا بالقياس للطيف غير المرئي من الضوء. لذلك فإنَّه -أي العالم غير المادي- يُشكِّل حافزاً للعقل للتحرك في فضائه الواسع؛ من أجل استكشاف خباياه ومعرفة أسراره. إنَّه المجهولُ الذي يُحفِّز العقلَ للعمل والنشاط، وإنَّ الصيرورة التاريخية للعقل تؤكد هذه الدافعية الساكنة في أعماق الإنسان التي حَاوَل العقل عبر مسيرته في التاريخ عبور حاجز الحس والتجربة، محاولًا الوصول إلى حقائق هذه الفضاءات المعرفية المختلفة المنتمية لعالم الميتافيزيقا.
ـــــــــــــ
1- المصدر السابق، ص:97.
2- المصدر 9، ص:344-345.
3- كارل بوبر، د. ماهر عبد القادر محمد علي، “منطق الكشف العلمي”، دار النهضة العربية، ص:33.
4- السيِّد مُحمَّد باقر الصدر، “فلسفتنا”، دار التعارف للمطبوعات، ص:142.
5- المصدر 8، ص:339-344.
6- “كبريات المشكلات العقلية: المعرفة والألوهية في الفلسفة الإسلامية والمدارس الفلسفية الأخرى، دار المعارف الحكمية، ص:69.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان