علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

أدلة الوحدانية (2)

 

الشيخ جعفر السبحاني .. 

۳ ـ صِرف الوجود لا يتثنى ولا يتكرر
إِنَّ هذا البرهان مركب من صغرى وكبرى على الشكل التالي :
الله سبحانه وجود صِرْف.
وكل وجود صرف واحد لا يتثنّى ولا يتكرّر.
فالنتيجة: الله سبحانه واحدٌ لا يتثنِّى ولا يتكرَّر.

أمّا الصغرى فإليك بيانها :
أثبتت البراهين الفلسفية أنَّهُ سبحانه منزَّه عن الماهية التي تحد وجوده. وتحليله يحتاج إلى بيان دور الماهية في وجود الشيء فنقول:  كل ما يقع في أُفق النظر من الموجودات الإمكانية، فهو مؤلف من وجود هو رمز عينيته في الخارج، وماهية تحد الوجود، وتبين مرتبته في عالم الشهود والخارج.
مثلاً: الزَّهرة الماثلة أمام أعيننا، لها وجود به تتمثل أمام نظرنا، ولها ماهية تحددها بحد النباتية، وتميزها عن الجماد والحيوان. ولأجل ذلك الحد نحكم عليها أنّها قد ارتقت من عالم الجماد ولم تصل بعد إلى عالم الحيوان. وبذلك تعرف أنّ واقعية الماهية هي واقعية التحديد.  هذا من جانب.  ومن جانب آخر، الماهية إذا لوحظت من حيث هي هي، فهي غير
الوجود كما هي غير العدم. بشهادة أنّها توصف بالأوّل تارة، وبالثاني أُخرى، ويقال: النبات موجود، كما يقال: غير موجود. وهذا يوضح أنّ مقام الحد والماهية مقام التخلية عن الوجود والعدم، بمعنى أنّ الإنسان عند النظر إلى ذات الشيء يراه عارياً عن كل من الوجود والعدم. ثمّ يصفه في الدرجة الثانية بأحدهما.  وأمّا وجه كون الشيء في مقام الذات غير موجود ولا معدوم؛ فلأجل أنّه لو كان في مقام الذات والماهية موجوداً ـ سواء أكان الوجود جُزْءَه أو عَيْنه ـ يكون الوجود نابعاً من ذاته، وما هذا شأنه يكون واجب الوجود، يمتنع عروض العدم عليه، كما أنّه لو كان في ذلك المقام معدوماً ـ سواء

أكان العدم جزءه أو عينه ـ يكون العدم نفس ذاته، وما هذا شأنه يمتنع عليه عروض الوجود . فلأجل تصحيح عروض كل من الوجود والعدم لا مناص عن كون الشيء في مقام الذات خالياً عن كلا الأمرين حتى يصح كونه معروضاً لأحدهما. وإلى هذا يهدف قول الفلاسفة: «الماهية من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة». ومع هذا كلِّه فهي في الخارج لا تخلو إمّا أنْ تكون موجودة أو معدومة. فالنبات والحيوان والإنسان في خارج الذهن لا تفارق أحد الوصفين. وبهذا تبين أنَّ اتصاف الماهية بأحد الأَمرين يتوقف على علة، لكن اتصافها بالوجود يتوقف على علة موجودة، ويكفي في اتصافها بالعدم، عدم العلة الموجودة. فاتصاف الماهيات بالأَعدام الأزلية خفيف المؤونة، بخلاف اتصافها بالوجود فإنّه رهن وجود علة حقيقية خارجية.
وعلى ضوء هذا البيان يتضح أنّه سبحانه منزَّهٌ عن التحديد والماهية، وإلّا لزم أنْ يحتاج في اتصاف ماهيته بالوجود إلى علة(1). و ما هذا شأنه لا يكون واجباً بل يكون ممكناً . وهذا يجرّنا إلى القول بأنَّه سبحانه صرف الوجود المنزه عن كل حد.

وأماّ الكبرى فإليك بيانها :
إن كل حقيقة من الحقائق إذا تجردت عن أي خليط، وصارت صِرفَ الشيء لا يمكن أن تتثنّى وتتعدد، من غير فرق بين أن تكون صِرفَ الوجود، أو تكون وجوداً مقروناً بالماهية كالماء والتراب وغيرهما . فإنَّ كل واحد منها إذا لوحظ بما هو هو عارياً عن كل شيء سواه لا يتكرر ولا يتعد . فالماء بما هو ماء، لا يتصور له التعدد إلاّ إذا تعدد ظرفه أو زمانه أو غير ذلك من عوامل التعدد والتميز.
فالماء الصرف والبياض الصرف والسواد الصرف، وكل شيء صرف، في هذا الأمر سواسية . فالتعدد وإلاثنَيْنِيّة رهن اختلاط الشيء مع غيره.
وعلى هذا، فإذا كان سبحانه ـ بحكم أنّه لا ماهية لهـ وجوداً صِرفاً، لا يتطرق إليه التعدد؛ لأنّه فرع التميز، والتميز فرع وجود غَيْرِيّة فيه، والمفروض خُلُوّه عن كل مغاير سواه، فالوجود المطلق والتحقق بلا لون ولا تحديد، والعاري عن كل خصوصية ومغايرة، كلما فرضْتَ له ثانياً يكون نفس الأوّل، لا شيئاً غيره، فالله سبحانه، بحكم الصغرى صِرف الوجود،
والصِرف لا يتعدد ولا يتثنَّى.  فينتج أنَّ الله سبحانه واحدٌ لا يتثنَّى ولا يتعدّد.


الهوامش
1. وهنا يبحث عن العلة ماهي ؟ أهي نفس الوجود العارض على الماهية أو وجود آخر . فإن كان الأوّل لزم الدور ، وإن كان الثاني لزم التسلسل . والتفصيل يؤخذ من محله . لاحظ الأسفار : ج ۱ ،فصل في أنّه سبحانه صِرْف الوجود.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد