الشيخ جعفر السبحاني
تقسيم الكون إلى عالم الغيب والشهادة…
اتفقت الشرائع السماوية على انقسام الكون إلى عالمي الغيب والشهود، وهذا هو الأساس لعامة المناهج الدينية، فأي مسلك ينكر ما وراء الحس والطبيعة لا يُعدّ ديناً، بل هو مسلك بشريّ والآتي به داعية وليس بنبيّ، ولذلك نرى أنّه سبحانه يركّز في غير واحد من الآيات على ذلك
التقسيم ويقول: (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، وفي آية أُخرى: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في ذلك المضمار.
إنّ الذكر الحكيم يعدّ الإيمان بالغيب من صفات المتقين ويقول:
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
وأمّا ما هو المراد من الغيب في مقابل الشهادة، وما هو الدليل على وجود ذلك التقسيم؟ فهذا ما سنتناوله ضمن الأُمور التالية:
1. الآراء المطروحة حول الكون
ينقسم الكون ـ عند الإلهيّين ـ إلى عالم الشهادة وعالم الغيب، أي عالمي المادة والتجرد خلافاً للمادّيين والشكّاكين، والآراء المطروحة لا تخرج عن ثلاثة:
1. القول بوجود العالمين بقوة وحماس وإنّ الكون لا ينحصر بالمادة بل يعمّ المجرد عنها.
2. القول بنفي ذلك التقسيم وأنّه ليس وراء المادة وعالم الشهادة خبر ولا أثر .
3. الشك والتحيّر وهو موقف اللاأدريين والمشكّكين الذين لا يثبتون شيئاً ولا ينكرونه.
وممّا أُلفت نظر القارئ إليه أنّه ليس للماديين أيّ دليل على نفي ذلك التقسيم وإلى نفي وجود عالم سوى عالم الشهود، ولكن يتصوّرون أنّهم في غنى عن إقامة الدليل على النفي والعدم، وإنّما المحتاج إلى ذلك هو الإلهي المثبت.
ولكن ذلك تفكير زائف، فإن الإنكار كالإثبات، وكلّ يشكل أحد طرفي القضية، فكيف يكون أحد طرفيه بحاجة إلى الدليل دون الطرف الآخر؟! ولذلك يجب عدُّ الماديين في عداد المشكّكين واللاّأدريين وإن كانوا يتظاهرون بالعلم بالعدم والنفي......
2. المراد من الغيب
الغيب هو كلّ ما غاب عن الحسّ. وهو على قسمين: غيب مطلق، وغيب نسبي ; ويراد بالأوّل الخارج عن إدراك الحواس الخمس من غير فرق بين إنسان وآخر، ولا ظرف دون ظرف، فالروح والجن والملك وسائر العوالم العلوية كلها تدخل في هذا القسم، وهذا هو الغيب المطلق. ويقابله النسبي، وهو ما يكون غيباً بالنسبة إلى شخص دون شخص آخر أو إلى حاسّة دون أُخرى. مثلاً: إنّ الدار ومن فيها، من الشهادة لمن فيها ومن قبيل الغيب لمن هو في خارجها، وكذا الأضواء والألوان المحسوسة بحاسة البصر من الشهادة بالنسبة إلى حاسة البصر ومن الغيب بالنسبة إلى حاسة السمع. والمسموعات الّتي ينالها السمع، شهادة بالنسبة إليه وغيب بالنسبة إلى البصر، وفي الوقت نفسه ما يدرك بهما كلّه بالنسبة إلى الإنسان الذي يملكهما من الشهادة، ومن الغيب لغير ذلك الإنسان.
ثم إنّ تقسيم الوجود إلى الشهادة والغيب إنّما هو بالنسبة إلى الإنسان لمحدود، وأمّا بالنسبة إلى الله سبحانه المحيط بالكون كلّه، فالكل شهودٌ له ولا يغيب عن وجوده شيءٌ: (وَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيء مُحِيطٌ).
3. أدوات المعرفة أوسع من الحسّ والتجربة
قد عرفت أنّه ليس للمادّيين دليل ولا برهان على مساواة الكون مع المادة، ولذلك قلنا: إنّ الأليق إلحاقهم بالمشكّكين واللاأدريين، ومع ذلك كلّه فهم يتظاهرون بالعلم بعدم سعة الوجود إلى ماديّ ومجرّد، والدليل القابل للذكر لهم هو ما سنذكره لاحقاً.
وحاصل الدليل: حصر أدوات المعرفة بالحس والتجربة، فأي موضوع وقع تحت دائرة الحس أو كان خاضعاً للتجربة فهو من أجزاء الكون ويوصف بأنّه موجود، والخارج عن ذينك الإطارين فهو محكوم بالعدم لا يركن إليه.
يلاحظ على ذلك الاستدلال:
أوّلاً: أنّ ما ذكر من الدليل ينقض مدعاه ويبطل دعواه، وذلك لأنّ قوله: «ما لم يقع في إطار الحسّ أو لم تؤيّده التجربة فهو ليس بموجود» ليس أمراً محسوساً ولا خاضعاً للتجربة، بل هو قضية عقلية تبنّاها المادّي من دون أن يُحسّها أو تدعمها التجربة، فما بال دعوى يبطلها برهانها.
ثانياً: أنّ للتجربة حق الإثبات وليس لها حق النفي، وبعبارة أُخرى: التجربة تتعلق بالأُمور المادية حتّى يركن إليها في ثبوتها وعدمها. ولأجل إيضاح الموضوع نأتي بمثال: لو أدخلنا قطعة من «المغناطيس» تحت التراب ثم أخرجناها وقد علقت بها ذرات من الحديد فإنّ هذه العملية تخبرنا عن وجود الحديد في هذه النقطة من الأرض أو عدمه ولا يمكنها نفي وجود غير الحديد من المعادن كالكبريت والفحم وغيرهما، لأنّ لاكتشاف كل شيء أداته المناسبة، ولمّا كان الحديد دون غيره هو الّذي يعلق بحجر المغناطيس، فإنّ هذا الحجر أداة لمعرفة وجود الحديد وعدمه خاصة. وكذلك التجربة الحسيّة فإنّها وسيلة لمعرفة وجود وخصائص كل ما هو ماديّ فحسب، ولا يمكن التعرّف بها على ما هو ليس بماديّ.
وعلى ذلك فكون الموجود غير الطبيعي خارجاً عن إطار التجربة لا يكون دليلاً على أنّ الأصالة للمادة وأنّه لا خبر ولا أثر عن غيرها ولا وجود له أبداً.
ثالثاً: كيف يمكن حصر أدوات المعرفة بالحس والتجربة مع أنّ عقلاء العالم وحتّى الماديين منهم يعتمدون في علومهم وتصديقاتهم على عشرات القضايا العقلية الّتي لا تثبت إلاّ بالدليل، نظير:
1. الحكم بامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما.
2. الحكم بامتناع اجتماع الضدين بالمعنى الصحيح.
3. الحكم بامتناع الدور بأن تفرض أن ظاهرة باسم (أ) علة موجدة لظاهرة ثانية باسم (ب)، ثم إنّ تلك الظاهرة الثانية سبب موجد للظاهرة الأُولى .
4. امتناع التسلسل وهو افتراض قضايا غير متناهية، كل يوصف بوصفين: علة لما بعده وموجد له، وفي الوقت نفسه معلول لما قبله ومتحقق بسببه، لكن دون أن تنتهي تلك السلسلة إلى مبدأ يكون علة لا معلولاً، موجوداً لا موجَداً، هذه هي حقيقة التسلسل ولا تعرف تلك القضايا وأمثالها إلاّ بالعقل.
العقل ودوره في العلوم
إنّ حصر أدوات المعرفة بالحس والتجربة اغترار بهما، فإنّ للعقل دوراً بارزاً في العلوم الطبيعية والرياضيات والإلهيات، وسنذكر شيئاً من دوره فيها:
أ. عملية الاستنتاج
إن للعقل دوراً في عملية الاستنتاج ولولاه لما قام للبرهان في عامة الأُمور دعامة، والمراد من الاستنتاج استخراج حكم موضوع مشخّص، من حكم كلّي مستنبط، وهذا من أسمى عمليات العقل في مجال المعارف، وهو ما يسمّى بالقياس البرهاني في اصطلاح المنطقيين. ولنأتِ بمثال:
إذا استخرج عن طريق البرهان الفلسفي أنّ التغيّر يلازم الحدوث، أي الوجود بعد العدم، فيستنبط حكماً كلّياً من البرهان، وهو أنّ كل متغيّر حادث. وفي ضوء هذا الحكم الكلّي، كلما عُرض عليه جزء من هذا العالم المتغيّر، سماؤه وأرضه، ذرته ومجرته، يحكم عليه بأنّه حادث. وقس على ذلك جميع البراهين العقلية في مجال الرياضيات والفلسفة والاجتماع، فالعقل يُحْضر الحكم الكلّي عن طريق البرهان ثم يطبقه على الموارد المعروضة عليه.
ب. دور العقل في إدراك المفاهيم الكلية
من العمليات الّتي يقوم بها العقل، درك المفاهيم الكلّية الّتي لا تأبى الصدق والانطباق على أزيد من فرد واحد. وأين الكلية والسعة من الحسّ والتجربة؟ والضيق الموجود في المفاهيم الجزئية المحسوسة منتف عنها. فالأعلام لا تصدق إلاّ على من سُمّيت به، بخلاف «الإنسان»، فهو ينطبق على أفراد كثيرين، فالإنسان بمفهومه الوسيع غير محسوس.
ج. تصنيف الموجودات
إنّ من أعمال العقل تصنيف الموجودات وتأليف المختلفات تحت مفهوم واحد، فيُدخل الأنواع الكثيرة تحت الجوهر، وعدّة من الأعراض تحت الكيف، وأُخرى تحت الكم. وهكذا.
د. التجزئة والتحليل
إن من عمليات العقل، تجزئة مفهوم واحد إلى مفاهيم كثيرة،كتحليل الإنسان إلى الحيوان الناطق، وتحليل الحيوان إلى الجسم المتحرك بالإرادة، وتحليل الجسم إلى ماله أبعاد ثلاثة، وغير ذلك من التحليلات الجسمانية والنفسانية.
والفرق بين التصنيف والتجزئة واضح جدّاً، فإن عمليتي التصنيف والتحليل أشبه ببناء المخروط. فالتصنيف يشرع من قاعدة المخروط حتّى يصل إلى رأسه، فيجمع المختلفات تحت مفهوم واحد. والتحليل يشرع من رأس المخروط، ثم يحلل شيئاً فشيئاً حتّى ينتهي إلى قاعدته.
هـ . التركيب والتلفيق
من عمليات العقل، التلفيق والتركيب. أمّا التلفيق فيكون في مجال التصور، حيث يقوم العقل بالجمع بين بسيطين، وإبداع شيء ثالث منهما في صقع الذهن، كتصور فرس بجناحين.
وأما التركيب فيكون في مجال التصديق، حيث يقوم العقل بتركيب قضيتين ويستنتج منهما نتيجة قاطعة.
وقد اعتنت الفلسفة الغربية بهذا القسم من عمليات العقل، وركز عليهما الفيلسوف الطائر الصيت «جان لوك» وبعده «كانت» فجاءا بمفاهيم جديدة في الفلسفة.
و . درك المفاهيم الإبداعية
ومن عمليات العقل صنع مفاهيم ليس لها في الخارج مصداق تنطبق عليه، وإن كان العقل لا يستغني من لحاظ الخارج في صنعها. وبعبارة أُخرى: ليس لها مصداق في الخارج، وإن كان لها منشأ انتزاع.
وهذا كمفهومي الإمكان والامتناع، فليس في الخارج شيء نسمّيه بالإمكان أو نسمّيه بالامتناع، بل هما من المفاهيم الإبداعية للنفس بعد قياس الماهية إلى الخارج. فإذا لاحظ العقل مفهوم «الإنسان» ورأى أنّ نسبة الوجود والعدم إليه في الخارج سواء، يصفه بأنّه ممكن الوجود، ويبدع مفهوم الإمكان وليس له مصداق في الخارج، إذ ليست التسوية أمراً متحقّقاً فيه حتّى تقع مصداقاً للإمكان، ومثله الامتناع، كما إذا لاحظ مفهوم اجتماع النقيضين ورأى أنّ اتّصافه بالوجود في الخارج غير قابل للتحقّق، فيصفه بأنّه ممتنع الوجود، فيبدع مفهوم الامتناع، وليس للامتناع مصداق في الخارج.
هذه الأعمال الستة تدلّ على أنّ للعقل دوراً كبيراً في مجال المعرفة وليس الحسّ والتجربة أداة منحصرة في مجالها.
كلّ ذلك يدلّ على أنّ أدوات المعرفة أوسع من الحسّ والتجربة.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان