الشيخ جعفر السبحاني
السؤال الثالث
إن الفقه علم متحايل، شأنه في ذلك شأن علم القانون، وهي صفة تُنبي عن طابع دنيوي لا مجال للمواربة فيه.
الجواب: تعود هذه الخصوصية إلى أمرين:
١ _ إن الفقه علم دنيوي.
٢ _ إن الفقه متحايل.
فلو كان المقصود من الخصوصية الأولى، أن مهمة الفقه تنظيم حياة البشر في هذا العالم والإشراف عليها، فلا شك أن للفقه خصوصيةً كهذه، وهي إحدى أهم مميزاته، التي لولا تحلِّيه بها، لتحول الإسلام إلى رهبانية لا صلاحية له إلا في نطاق الأديرة. أمّا لو أريد منها أن الفقه مقتصر باهتمامه على دنيا البشر، ولا شأن له بالأبعاد النفسية والتربوية والأخلاقية للشخصية الإنسانية، فهو قول خاطئ جداً. فالفقه ينقسم إلى أربعة أقسام أحدها العبادات، التي يشترط في صحتها قصد القربة والقيام لله والابتعاد عن مراءاة الناس.
فلا بد أن يكون دافع المسلم لأداء الوضوء والغُسل والصلاة والزكاة والجهاد والحج القرب من الله. فكيف يمكن والحالة هذه القول بأن الفقه لا يُعنى بغير الدنيا؟ إن النوافل الليلية وكثير من المستحبات الواردة في الفقه كلها ذات طابع أخروي ومعنوي، وهذه الآية الكريمة تصوغ لنا أساس الفقه: ((قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى)). نعم إن الفقهاء متفقون جميعاً على اعتبار قصد القربة يمثل روح العبادة في كافة الأعمال العبادية، وإلا فالعمل بدونها لغو لا طائل منه. وهو ما سنفصّل الحديث بصدده لدى مناقشتنا للسؤال الرابع.
أمّا فيما يتعلق بالخصوصية الثانية، فننوّه أولاً إلى أنه قد ساوى في هذا الشأن الفقه الشيعي بفقه بعض المذاهب، إذ تذكر المصادر الفقهية أن أبا حنيفة قد أوجد مبدأ ((فتح الذرائع))، الذي يرفضه فقهاء الشيعة بالإضافة إلى جمع من فقهاء السنة. لأنه مبدأ يرمي إلى تحويل بعض الحرام إلى حلال وبالعكس، وذلك باللجوء إلى حيل شرعية الظاهر، في حين أن فقهاء آخرين يعتقدون بمبدأ آخر عرف باسم ((سد الذرائع)).
يقول الفقه الإمامي: إن التهرب من الحكم يكون مقبولاً متى ما عينه الشرع نفسه، كما لو قال مثلاً على الإنسان أن يصوم إذا كان في حضر، ثم يأذن الشارع نفسه بالإفطار للمكلف المسافر، مخيِّراً له بين إقامته وسفره. وهذا اللون من التحايل من الشرع نفسه لا من الفقه، بل الصواب أن لا نسمي حالة كهذه حيلة شرعية، لأن الحاضر والمسافر موضوعان يباين أحدهما الآخر، ولكل منهما حكمه الخاص.
إن احتراف التحايل من خصائص اليهود، الذين كانوا عرفوا بتملصهم من تنفيذ الأحكام بحيل متعددة، وقد تطرق القرآن الكريم إلى ماضيهم في سورة الأعراف في الآية ١٦٣ وما بعدها. فقد حرم الله عليهم الصيد في يوم السبت امتحاناً لهم، في الوقت الذي كانت أمواج البحر لا تأتي بالحِيتان إلى الساحل إلا في يوم السبت بالذات، ففكروا بحيلة للالتفاف على الحكم، فحفروا جداول تتصل بالبحر بحيث تمتلئ بالماء إذ كان البحر مداً، فإذا حل يوم السبت وملأت المياه الجداول، دخلتها الحيتان مع المد فلا يصطادون منها شيئاً، ولكن يعمدون إلى نهايات الجداول فيغلقونها، فإذا صار البحر جزراً وجاء يوم الأحد اصطادوا، فكان ذلك سبباً أن أنزل الله عليهم العذاب، وقال لهم كونوا قردة خاسئين، يقول تعالى: ((وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)).
يرى الإمام الخميني (ره) أن كل الحيل الشرعية باطلة ولا قيمة لها. والآن كيف أمكن أن ينسبوا إلى الفقه حكماً كهذا، شيء يدعو إلى العجب حقاً! نعم، لقد أعاد بعض الفقهاء النظر في بعض المسائل، ولكن ليس ذلك بهدف ابتكار حيلة، بل سعياً منهم لحل ما بدأت تخلقه تبعية اقتصاد البلد للغرب من مشاكل يومية للناس، وذلك بزيادة بعض الشروط وتقليص بعضها الآخر، وإدخال الموضوع تحت عنوان آخر. كما حصل اليوم مع موضوع المضاربة، إذ أمكن بواسطتها حل بعض المسائل المتعلقة بالربا، بشرط التزام الطرفين بالشروط بشكل دقيق يميز بين الربا والمضاربة، حيث أحل الله المضاربة وحرم الربا، وبناء على ذلك، فليس واضحاً بأي معيار أفتى صاحب المقال بحكم كهذا.
السؤال الرابع
إن الفقه علم يُعنى بالظواهر، أي أنه يعنى بظواهر الأعمال، حتى لقد عُدّ الإسلام بقوة السيف إسلاماً، وعليه فالمجتمع الفقهي لا يلزم اعتباره مجتمعاً دينياً.
الجواب: أُشيرَ في هذه الخصوصية إلى أمرين:
١ _ أن الفقه يكتفي في قبوله لإسلام الفرد بالظاهر.
٢ _ أن الفقه يعنى بظواهر الأعمال.
نشير فيما يتعلق بالأمر الأول إلى أن الفقه عندما يكتفي في قبوله لإسلام الفرد بالإقرار والاعتراف، فذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة الباطن مطلقاً. لذا لو اتفق ان انكشف نفاق شخص من خلال طول المعاشرة، فإنه يخرج من جماعة المسلمين ويعد واحداً من المنافقين. كأن صاحب المقال يتوقع من الإسلام أن يأمر بتفتيش القلوب، وكشف مكنونات الناس، وهو ما لا سبيل له، فضلاً عما يفضي إليه من مفاسد لا عدّ لها ولا حصر.
الخصوصية الثانية التي يقول فيها إن الفقه يُعنى بظواهر الأعمال، ليست إلا تكراراً للسؤال الثالث، وكان من الجدير بكاتب المقال المحترم مراجعة كتاب ((المحجة البيضاء)) للفيض الكاشاني، وكذلك كتاب ((إحياء علوم الدين)) للغزالي، فقد حوى الكتابان أبواباً متنوعة بعناوين مثل: المقرِّبات، المبعِّدات، الطاعات، المعاصي، وهي أمور مستلّة جميعاً من الفقه الإسلامي، ولا يمكن اعتبارها ناظرة إلى ظواهر الأعمال. إن لكل علم موضوعه الخاص الذي يصدر أحكامه بشأنه، ولا ينبغي أن يتوقع من ذلك العلم ما هو خارج عن واجبه الخاص به. وما نعتقد به هو أن الدين الإسلامي كامل، والفقه يمثل جزءاً من الإسلام، لا الإسلام كله. وإن للفقه دوراً أساساً في تهذيب الظواهر، أمّا تهذيب النفس فلا بد بشأنه من مراجعة علمي الأخلاق والعرفان الإسلامي، الذين يتعاونا مع الفقه على إيصال الإنسان إلى كماله. لكننا نجد أن النقد الموجه في هذا السؤال قائم على تصوّر أن الفقه متكفل بتسكين جميع الآلام، في حين ينبغي أخذ مجموع الدعوة الإسلامية بنظر الاعتبار، عندها يكون التقييم ممكناً. لقد عبر علماء الإسلام عن الدين الإسلامي بأنه دين يرتقي بالإنسان إلى حقيقته، لما يتمتع به من إحاطة بجميع أبعاد حياة الإنسان المادية والمعنوية. وهذا الدين مؤلَّف من أجزاء منها الفقه ومنها الأخلاق والعرفان الاسلامي، وهي أجزاء منسجمة مع بعضها ولا تعارض فيما بينها إطلاقاً.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان