علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

طرق المعرفة وأدواتها في الإسلام

الشيخ جعفر السبحاني

[أولاً] : طرق المعرفة:

يستعين الإسلامُ لمعرفة الكون، وللوصول إلى الحقائق الدينيَّة بثلاثة أنواع من الأدَوات مع أنّه يعتبر لكلّ واحدٍ منها مجالاً مختصّاً به.

وهذه الأدَوات هي:

1. الحِسّ، وأهّم الحواسّ هما حاسّتا السمع والبصر.

2. العقل الّذي يكتشف الحقيقة في مجالٍ محدودٍ وخاصّ، منطلِقاً في ذلك من أُصول ومبادىء خاصّةٍ.

3. الوحي الّذي هو وسيلة لارتباط ثُلّةٍ ممتازة ومميّزة من البشر بعالم الغيب.

وفي إمكان البشريّة جميعاً أن يستفيدوا من الطّريقين الأوَّلين في معرفة الكون وفي فهمِ الشّريعة كذلك، بينما الطريق الثالث خاصّ بمن شملتهُ العنايةُ الإلهيّة، وأبرز نموذج لهذا النمط من النّاس هم رسُلُ الله وأنبياؤه الكرام (1).

هذا مضافاً إلى أنّ أدَوات الحسّ وما يسمّى بالحواسّ الخمس، لا يستفاد منها إلاّ في مجال المحسوسات، كما لا يستفاد من أداة العقل إلاّ في مجال محدودٍ يملك العقلُ مبادئه. على حين يكون مجال الوحي أوسع نطاقاً وأكثر شموليّة، كما أنّه نافذٌ في جميع الأصعدة سواء في مجال العقيدة أو في إطار الوظائف والتَّكاليف.

ولقد تحدّث القرآنُ الكريمُ حولَ هذه الأدَوات الثلاث في آياتٍ متعددة نأتي هنا بنموذجَين منها: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] على أنّ ذَيلَ الآية المذكورة الذي يتضّمن أَمراً بالشُكر يفيد أنّ على الإنسان أن يستفيد من هذه الأدَوات الثلاث لأنّ الشّكر يعني صَرف كل نعمةٍ في موضِعِها المناسِب. وحول «الوحي» قال سبحانه : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]  .

إنَّ الإنسان المتديّن يستفيد ـ في معرفة الكون والحياة، والعقيدة والدين ـ مِن الحسّ، ولكن غالباً ما تكون المدرَكات الحسيّة أَساساً ومنطلقاً لأحكامِ العقل أي أن تلك المدرَكات تصنع الأرضيّة للفكر وحُكمه، كما أنّه قد يُستفاد من العقل والفكر في معرفة الله وصفاته وأفعاله وتكون حصيلةُ كلّ واحدة من هذه الطرق والأدَوات مقبولةً، ونافذةً ومعتبرة في اكتشاف الحقيقة ومعرفتها.

[ثانيا] دعوة الأنبياء والرسل:

تتلخّص دعوةُ الأنبياء والرسُل في أمرين:

1 ـ العقيدة .

2 ـ العمل .

وتتمثل مهمتُهم في مجال «العقيدة» في الدعوة إلى الإيمان بالله، وصفاته الجماليّة والجلاليّة، وأفعاله.

بينما المقصود من «العمل» هو التّكاليف والأحكام التي يجب أن تَقوم الحياةُ الفرديّة والاِجتماعيّة على أساسِها.

والمطلوبُ في مجال العقيدة إنّما هو العلم واليقين، ومن المسلَّم أنَّه لا يكون شيءٌ ما حجةً، (وبعبارة أُخرى: لا يَتّسِمْ بالحجيّة) إلاّ ما يؤدي إلى هذا الأمر المطلوب.

ولهذا يجب على كل مُسلمٍ أنْ يصلَ في عقائده إلى اليقين، فليس له أن يكتفيَ في هذا المجال بمجرد التقليد، فيأخذَ عقائدَه تقليداً، ويعتنِقها من غير تحقيقٍ.

أمّا في مجال الوظائف والتّكاليف (العمل) فإِنّ ما هو المطلوب فيها هو تطبيق الحياة على أساسِها، والأخذُ بموازينها في جميع المَجالات الفرديّة والاِجتماعيّة والسّياسيّة والاِقتصاديّة.

وفي هذا الصَعيد ثَمَّت ـ بالإضافة إلى اليقين ـ طُرق أُخرى أيضاً قد أيَّدَتْها الشّريعةُ وفرض علينا الاعتماد عليها للوصول إلى هذه التّكاليف والوظائف، والرجوع إلى المجتهد الجامع للشّرائط هو أَحدُ الطرق التي أيّدها وأقرّها صاحبُ الشريعة.

[ثالثًا] حجية العقل والوحي:

نحن نعتمد في أَخذ العقائد والأحكام الدّينيّة على حُجّتين إلَهيّتين هما: العقل والوحي.

وعمدة الفرق بين هذين هو أنّنا نستفيد مِن «الوحي» في جميع المجالات، بينما نستفيد مِن «العقل» في مجالات خاصّة

والمقصود مِن «الوحي» هو كتابُنا السَّماوي «القرآن الكريم» والأحاديث التي تنتهي أسنادها إلى رسول الله.

وأمّا أحاديث أئمة أهل البيت: فبما أنّها تنتهي إلى رسول الله، وتنبع منه، تسمّى جميعُها بالإضافة إلى أحاديث النبي بالسُّنة، وتُعتَبر من الحجج الإلَهيّة.

إنّ العقل والوحي يؤيّد كلٌ منهما حجيّةَ الآخر وإذا أثبتنا بحكم العقل القطعي حجيّة الوحي فإنّ الوحي بدوره يؤيّد كذلك حجيّة العقل في مجاله الخاصّ به.

إنّ القرآن الكريم يَقُودُ ـ في كثير من المواضع ـ إلى حكم العقل وقضائه، ويدعو النّاس إلى التّفكر والتّدبر العقلي في عجائب الخلق، ويستعينُ هو كذلك بالعقل لإثبات مضامين دعوتهِ، وليس ثمَّتَ كتابٌ سماويٌ كالقرآن الكريم يحترِم المعرفةَ العقليَّة (والقضاياَ المدلَّلُ عليها بالعقل السليم). فَالقرآن زاخرٌ بالبراهين العقلية في صعيدِ العقائد، حتّى أنّها تفوقُ الحصرَ.

ولقد أكّد أئمةُ أهل البيت: على حجيّة العقلِ وأحكامهِ في لمجالات التي يحقُّ للعقل الحكمُ فيها، حتّى أنّ الإمام السّابع موسى بنَ جعفرٍ عدّه إحدى الحجج إذ يقول: «إنّ لله على الناس حجّتين: حجّةً ظاهرةً وحجّةً باطنةً، فأمّا الظّاهرةُ فالرُّسل والأنبياءُ والأئمة، وأمّا الباطنةُ فالعُقول»(2)

[رابعاً] العقل والوحي لا يتعارضان:

لمّا كانَ الوحيُ دليلاً قطعيّاً، وكان العقلُ مِصباحاً منيراً جعلهُ الله في كيان كل فردٍ من أفراد النَّوع الإنسانيّ، ـ لذلك ـ لَزِمَ أنْ لا يقع أَيُّ تعارُضٍ بين هاتين الحجّتينِ الإلَهيَّتين.

ولو بدا تعارضٌ بدائيٌ أحياناً بينَ هاتينِ الحجَّتينِ، فيجب أنْ يُعْلَم بأَنّه ناشىٌ من أحد أمرين: إمّا أنّ اسْتنباطنا مِن الدِّينِ في ذلك المورد غيرُ صحيحٍ، وإمّا أنّ هناك خطأً وقع في مقدّمات البرهانِ العقليّ، لأنّ الله الحكيم تعالى لا يدعُو النّاس إِلى طريقينِ متعارضينِ مُطلقاً.

وكما أنّه لا يُتصَوَّر أي تعارض حقيقي بين العقل والوحي، كذلك لا يحدثُ أَيُّ تعارضٍ بين «العلم» و «الوحي» مطلقاً، وإذا لُوحظَ نوعٌ مِن التعارض بين هذين في بعضِ الأحايين فإنّه أيضاً ناشىء من أحد أمرين: إمّا أَنْ يكونَ استنباطُنا من الدّين في هذا الموضع استنباطاً خاطئاً، وإمّا أنَّ العلمَ لَمْ يَصِل في هذا الموضوعِ إلى المرحلة القطعيَّة.

إنّ التعارضَ ينشأُ غالباً من الشِّقِ الثاني أَيْ عندما تُتلقّى بعض الفرضيّات العلميّة على أنّها حقائق قطعيّة، وعند ذلك يحدث التصوّر بأنَّ هناك تعارضاً بين العلم والدّين.

[خامساً] حقيقة العالم مقولة غير خاضعة لتفكيرنا:

في مجال الأمور التكوينيّة ذات الواقع المستقلّ عنِ الفكر والتَّصوُّر، تكون الحقيقة مقولةً ذات صفة أبَديّة وخالدة. بمعنى أنّ الإنسان لو توصّل عن طريق إحدى الأدَوات الحسّيّة إلى معرفة أَمرٍ واقعيٍّ كحقيقةٍ من الحقائق فإنّ ما اكتشفه يكون حقاً ثابتاً، دائماً وأبداً.

وَامّا إذا اكتشف أَمراً بعضُه معلوم ومطابق للحقيقة، وبعضُه الآخر خَطَأٌ كان ذلك القسمُ الّذي يتَّسمُ بسمةِ الحقيقة، حقيقة إلى الأبَد، بمعنى أنّه لا ولن يتغير أبداً بتغيّرِ الظروفِ وانقلابها.

وبعبارةٍ أُخرى؛ إنَّ النِّسبيَّة في الحقائق، بمعنى كون حصيلة معرفة في زمانٍ عينَ الحقيقة، وفي زمان آخر عين الخطأ، لا تُتصوّر في مجال المعرفة التي ترتبط بالتكوينيّات.

فإِذا كان حاصلُ ضرب 2  × 2 يساوي 4 مثلاً أمراً ثابتاً، فإنَّ هذا يكون ثابتاً مطلقاً، وإِذا لم يكن هكذا فهو ليس هكذا مطلقاً.

فلا يمكنُ أنْ تكون حصيلةُ معرفة من المعارف في مرحلة خاصّة عينَ الحقيقة وفي مرحلة أُخرى ترتدي رداءَ الخطأ.

إنَّ النسبيَّة في المعارف والمُدركات إِنَّما تُتصوَّر فيِ الأمورِ الَّتي ليس لها واقعية سوى فكر الإنسان وتصديقه وتكون من مواضعاته فمثلاً، المجتمع الغربي مختار وحر في انتخاب نظام حكومته. فإِذا اتفقوا ذاتَ يوم على صيغة معيّنة للحكم اتّسمت تلك الصّيغَة بسمة الحقيقة ما داموا متفقين عليها.

وَأَمّا إذا اتَّفقوا ـ ذات يومٍ ـ على عكسها، كانت الصّيغة الثانيةُ هي الحقيقة، وفي نفس الوقت يكون كل من المعرفتين في ظرفها الخاصّ عين الحقيقة.

ولكنَّ الأمورَ الَّتي لها بذاتها محلّ مشخّص ومحدود خارج الذّهن، إذا وقعتْ في إطار الإدراكِ بصورةٍ صحيحة وثابتةٍ تكون صحيحة للأبد، وكان خلافها كذلك باطلاً دائما وأبداً.

وبتعبير آخر؛ إنّ كل شيء له واقعية خارجية وراء ذهن الإنسان فالمعرفة الواقعة عليه يدور أمرها بين الصحة والخطأ، وأمّا الأمور الاعتبارية التي يصنعها الذهن لأجل أغراض اجتماعية، كصيغة الحكومة، والرئاسة والملكيّة فهي تتسم بالنسبيّة وتوصف بها. وتكون حقيقة في ظرف دون آخر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جاءت الإشارة في الأحاديث الإسلاميّة إلى مَن وُصِف بالمحدَّث...

(2) الكافي الاُصول: ج 1، ص 16، الحديث 12.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد