علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الصدر
عن الكاتب :
ولد في مدينة الكاظمية المقدسة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1353 هـ، تعلم القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية، في مدينة الكاظمية المقدسة وهو صغير السن وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ.rnبدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية. بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر، سنة 1365 هـ هاجر إلى النجف الاشرف، لإكمال دراسته، وتتلمذ عند آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي. أنهى دراسته الفقهية عام 1379 هـ والأصولية عام 1378 هـ عند آية الله السيد الخوئي.rnمن مؤلفاته: فدك في التاريخ، دروس في علم الأصول، نشأة التشيع والشيعة، فلسفتنا، اقتصادنا وغير ذلك.

مآسي النّظام الرّأسماليّ

إذا أردنا ان نستعرض الحلقات المتسلسلة من المآسي الاجتماعية التي انبثقت عن هذا النظام المرتجل لا على أساس فلسفي مدروس، فسوف يضيق المجال المحدود لهذا البحث، ولذا نلمح إليها:

 

فأول تلك الحلقات: تحكم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية. فإن الحرية السياسية كانت تعني أن وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حق الأكثرية، ولنتصور أن الفئة التي تمثل الأكثرية في الأمة ملكت زمام الحكم والتشريع، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية، وهي عقلية مادية خالصة في اتجاهها، ونزعاتها وأهدافها وأهوائها فماذا يكون مصير الفئة الأخرى؟ أو ماذا ترتقب للأقلية من حياة في ظل قوانين تشرع لحساب الأكثرية ولحفظ مصالحها؟! وهل يكون من الغريب حينئذ إذا شرعت الأكثرية القوانين على ضوء مصالحها خاصة، وأهملت مصالح الأقلية واتجهت إلى تحقيق رغباتها اتجاها مجحفًا بحقوق الآخرين؟ فمن الذي يحفظ لهذه الأقلية كيانها الحيوي ويذب عن وجهها الظلم، ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كل فرد وما دامت الأكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهومًا في عقليتها الاجتماعية؟ وبطبيعة الحال، إن التحكم سوف يبقى في ظل النظام كما كان في السابق وأن مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم ستحفظ في الجو الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الأجواء الاجتماعية القديمة. وغاية ما في الموضوع من فرق: أن الاستهتار بالكرامة الإنسانية كان من قبل أفراد بأمة، وأصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثل الأكثريات بالنسبة إلى الأقليات، التي تشكل بمجموعها عددًا هائلًا من البشر.

 

وليت الأمر وقف عند هذا الحد، إذا كانت المأساة هينة، ولكان المسرح يحتفل بالضحكات أكثر مما يعرض من دموع، بل إن الأمر تفاقم واشتد حين برزت المسألة الاقتصادية من هذا النظام بعد ذلك، فقررت الحرية الاقتصادية ... وأجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشًا، ومهما كان شاذًّا في طريقته وأساليبه، وضمنت تحقيق ما أعلنت عنه، في الوقت الذي كان العالم يحتفل بانقلاب صناعي كبير، والعلم يتمخض عن ولادة الآلة التي قلبت وجه الصناعة وكسحت الصناعات اليدوية ونحوها، فانكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب الأقلية من أفراد الأمة، ممن أتاحت لهم الفرص وسائل الإنتاج الحديث وزودتهم الحريات الرأسمالية غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها إلى أبعد حد، والقضاء بها على كثير من فئات الأمة التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها، وزعزعت حياتها، ولم تجد سبيلًا للصمود في وجه التيار، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلحين بالحرية الاقتصادية وبحقوق الحريات المقدسة كلها، وهكذا خلا الميدان إلا من تلك الصفوة من أرباب الصناعة والإنتاج، وتضاءلت الفئة الوسطى واقتربت إلى المستوى العام المنخفض، وصارت هذه الأكثرية المحطمة تحت رحمة تلك الصفوة، التي لا تفكر ولا تحسب إلا على الطريقة الديمقراطية الرأسمالية. ومن الطبيعي حينئذ أن لا تمد يد العطف والمعونة إلى هؤلاء، لتنتشلهم من الهوة وتشركهم في مغانمها الضخمة. ولماذا تفعل ذلك؟! ما دام المقياس الخلقي هو المنفعة واللذة، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرية فيما تعمل، وما دام النظام الديمقراطي الرأسمالي يضيق بالفلسفة المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصة؟!

 

فالمسألة إذًا يجب أن تدرس بالطريقة التي يوحي بها هذا النظام، وهي أن يستغل هؤلاء الكبرياء حاجة الأكثرية إليهم ومقوماتهم المعيشية، فيفرض على القادرين العمل في ميادينهم ومصانعهم، في مدة لا يمكن الزيادة عليها، وبأثمان لا تفي إلا بالحياة الضرورية لهم. هذا هو منطق المنفعة الخالص الذي كان من الطبيعي أن يسلكوه، وتنقسم الأمة بسبب ذلك إلى فئة في قمة الثراء، وأكثرية في المهوى السحيق.

 

وهنا يتبلور الحق السياسي للأمة من جديد بشكل آخر، فالمساواة في الحقوق السياسية بين أفراد المواطنين، وإن لم تمح من سجل النظام، غير أنها لم تعد بعد هذه الزعازع إلا خيالًا وتفكيرًا خالصًا. فإن الحرية الاقتصادية حين تسجل ما عرضناه من نتائج، تنتهي إلى الانقسام الفظيع الذي مر في العرض، وتكون هي المسيطرة على الموقف والماسكة بالزمام، وتقهر الحرية السياسية أمامها. فإن الفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع، وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية، وتمكنها من شراء الأنصار والأعوان... تهيمن على تقاليد الحكم في الأمة، وتتسلم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعًا لسيطرة رأس المال، بعد أن كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية أنه من حق الأمة جمعاء.

 

وهكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حكمًا تستأثر به الأقلية، وسلطانًا يحمي به عدة من الأفراد كيانهم على حساب الآخرين، بالعقلية النفعية التي يستوحونها من الثقافة الديمقراطية الرأسمالية. ونصل هنا إلى أفظع حلقات المأساة التي يمثلها هذا النظام، فإن هؤلاء السادة الذين وضع النظام الديمقراطي الرأسمالي في أيديهم كل نفوذ، وزودهم بكل قوة وطاقة... سوف يمدون أنظارهم - بوحي من عقلية هذا النظام - إلى الآفاق ويشعرون بوحي من مصالحهم وأغراضهم أنهم في حاجة إلى مناطق نفوذ جديدة وذلك، لسببين:

 

الأول: أن وفرة الإنتاج تتوقف على مدى توفر المواد الأولية وكثرتها، فكل من يكون حظه من تلك المواد أعظم تكون طاقاته الإنتاجية أقوى وأكثر. وهذه المواد منتشرة في بلاد الله العريضة. وإذا كان من الواجب الحصول عليها، فاللازم السيطرة على البلاد التي تملك المواد لامتصاصها واستغلالها.

 

الثاني: أن شدة حركة الإنتاج وقوتها، بدافع من الحرص على كثرة الربح من ناحية، ومن ناحية أخرى انخفاض المستوى المعيشي لكثير من المواطنين، بدافع من الشره المادي للفئة الرأسمالية، ومغالبتها للعامة على حقوقها بأساليبها النفعية، التي تجعل المواطنين عاجزين عن شراء المنتجات واستهلاكها - كل ذلك يجعل كبار المنتجين في حاجة ماسة إلى أسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها، وإيجاد تلك الأسواق يعني التفكير في بلاد جديدة.

 

وهكذا تدرس المسألة بذهنية مادية خالصة. ومن الطبيعي لمثل هذه الذهنية التي لم يرتكز نظامها على القيم الروحية والخلقية، ولم يعترف مذهبها الاجتماعي بغاية إلا إسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع والشهوات... أن ترى في هذين السببين مبررًا ومسوغًا منطقيًّا للاعتداء على البلاد الآمنة، وانتهاك كرامتها والسيطرة على مقدراتها ومواردها الطبيعية الكبرى واستغلال ثرواتها لترويج البضائع الفائضة، فكل ذلك أمر معقول وجائز في عرف المصالح الفردية التي يقوم على أساسها النظام الرأسمالي والاقتصاد الحر.

 

وينطلق من هنا عملاق المادة يغزو ويحارب، ويقيد ويكبل، ويستعمر ويستثمر، إرضاء للشهوات وإشباعًا للرغبات. فانظر ماذا قامت الإنسانية من ويلات هذا النظام، باعتباره ماديًّا في روحه وصياغته وأساليبه وأهدافه، وإن لم يكن مركزًا على فلسفة مجددة تتفق مع تلك الروح والصياغة، وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف... وقدّر بنفسك نصيب المجتمع الذي يقوم على ركائز هذا النظام ومفاهيمه من السعادة والاستقرار، هذا المجتمع الذي ينعدم فيه الإيثار والثقة المتبادلة، والتراحم والتعاطف الحقيقي، وجميع الاتجاهات الروحية الخيرة، فيعيش الفرد فيه وهو يشعر بأنه المسؤول عن نفسه وحده، وأنه في خطر من قبل كل مصلحة من مصالح الآخرين التي قد تصطدم به. فكأنه يحيا في صراع دائم ومغالبة مستمرة، لا سلاح له فيها إلا قواه الخاصة، ولا هدف له منها إلا مصالحه الخاصة.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد