علمٌ وفكر

التّناسخ

الشيخ محمد جواد مغنية

 

اختلف الناس في حقيقة النفس، وتعددت الأقوال حتى بلغت أربعة عشر قولاً «1»، أسخفها القول بأن نفس الإنسان هي اللّه بالذات، وأضعفها أنها الماء والهواء أو النار أو هذه العناصر مجتمعة، لأنه لا حياة مع فقد أحدها، وأشهر الأقوال قولان:

 

الأول: إنها جوهر مجرد عن المادة وعوارضها، أي ليست جسمًا، ولا حالة في جسم، وإنما تتصل به اتصال تدبير وتصرف، وبالموت ينقطع الاتصال. وعلى هذا الرأي جمهور الفلاسفة، والشيعة الإمامية، والغزالي من الأشاعرة.

 

القول الثاني: إنها جوهر مادي، ذهب إليه جماعة المعتزلة وكثير من المتكلمين «2». وقال الحنبلية والكرامية وكثير من أهل الحديث: كل ما ليس جسمًا، ولا يدرك بإحدى الحواس فهو لا شيء «3». واستدل القائلون بنفي المادة عن النفس بأنها تدرك وتفكر، والمادة لا تدرك ولا تفكر، فتكون مغايرة لها.

 

وأجابهم القائلون بثبوث المادة للنفس، بأن الجسم يحس ويدرك حرارة النار، وبرودة الثلج، وحلاوة العسل، وألم الضرب، وكذلك إذا قال القائل: أكلت ونمت وتزوجت وسافرت، فإن هذه وما إليها من خواص الجسم وعليه يكون الجسم مدركًا مثل النفس.

 

الجواب :

إن إدراك الحرارة والبرودة والألم من خواص النفس، والجسم واسطة وآلة، تمامًا كأدوات البناء بالقياس إلى الباني، وإلا لو كان الإدراك والإحساس للجسم وحده لكان كل جسم يحس ويدرك حتى الحجر. أما عدم فناء النفس وبقاؤها بعد الموت فقد أطال الفلاسفة في إقامة البراهين العقلية عليه. والحقيقة إن فناء الجسم لا يستدعي فناء النفس ولا بقاءها، وإن العقل لا يحكم بذلك سلبًا ولا إيجابًا، بل يتركه إلى الشرع.

 

وقد أجمعت الأمة، وتواترت السنّة، ونص القرآن الكريم على أن النفس باقية بعد فناء الجسم: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».

 

وقد دانت طوائف من شعوب شتى ببقاء النفس بعد فناء الجسم، وبتناسخها متنقلة من بدن إلى بدن، بحيث يكون بينها وبين الثاني من العلاقة ما كان بينها وبين الأول. ومن عقيدة أهل التناسخ أن النفس إذا كانت مطيعة للّه تعالى، ومن ذوات الأعمال الطيبة والأخلاق الطاهرة انتقلت بعد موتها إلى أبدان السعداء وأهل الجاه والثراء، وإذا كانت عاصية شقية انتقلت إلى أبدان الحيوانات، وكلما كانت أكثر شقاوة اختير لها بدن أخس وأكثر تعبًا.

 

وقال صدر المتألهن الشيرازي في كتاب «المبدأ والمعاد» إذا انتقلت النفس الإنسانية إلى بدن إنسان سمي ذلك نسخًا، وإذا انتقلت إلى بدن حيوان كان مسخًا، وإذا انتقلت إلى النبات فهو الفسخ، أو إلى الجماد فهو الرسخ. ولا حساب عند أهل التناسخ، بل تنتقل النفس في هذه الحياة من كائن إلى كائن، وهكذا إلى ما لا نهاية. وغير بعيد أن مخترع هذه الفكرة كان رحالًا من عشاق الأسفار. ومهما يكن فقد استدلوا على التناسخ بما يلي:

 

1 - إن النفس لو لم تنتقل بعد فساد الجسم الأول إلى غيره لبقيت معطلة بلا عمل، لأن البدن بمنزلة الآلات والأدوات للنفس، وبدونه لا تستطيع القيام بأي عمل. وأجيبوا بأنه ثم ماذا؟! وأيّ باطل يترتب على تركها للعمل؟! وعلى افتراض أنه لا بد لها من تدبير عمل فليس من الضروري أن يكون عملها بعد مفارقة البدن تمامًا كعملها حين اتصالها به، فربما كان من نوع آخر كالإشراق والابتهاج وما إلى ذلك مما لا يستدعي وجود البدن.

 

2 - إن النفوس هي عبارة عن كمية محدودة العدد، لأنها موجودة بكاملها فعلًا وخارجًا لا تزيد ولا تنقص، أما الأجسام فلا نهاية لها، بل تتجدد وتتبدل على التوالي والتعاقب، وبذلك تكون الأبدان أكثر عددًا من النفوس، فإذا لم تتنقل النفس الواحدة بين أبدان عديدة لزم أن تبقى أبدان بلا نفوس، لأن توزيع الأقل على الأكثر بالتساوي محال.

 

والجواب:

إن هذه دعوى بلا دليل، وافتراض بدون أساس، ومن الذي قام بعملية الإحصاء، وثبت له بالتتبع والاستقراء أن النفوس أقل من الأجسام؟!. وعلى الرغم من أن أقوال أهل التناسخ كلها من هذا القبيل فقد استدل العقلاء على بطلان التناسخ بأمور:

 

1 - لو انتقلت النفس من البدن الأول إلى الثاني للزم أن يتذكر الإنسان شيئَا من أحوال البدن الأول، لأن العلم والحفظ والتذكر من الصفات التي لا تختلف باختلاف الأبدان والأحوال، مع أننا لا نعرف شيئَا عمّا كان قبل وجودنا الحالي.

 

2 - لو تعلقت النفس بعد مفارقة هذا البدن ببدن آخر للزم أن يكون عدد الوفيات بمقدار عدد المواليد دون زيادة أو نقصان، لأنه إذا زادت المواليد بقيت أبدان بلا نفوس، وهو باطل عند أهل التناسخ، لأنه يستلزم تعطيل النفوس، وأما تعطيل الأبدان، فإنهم يمنعون من وجود المعطل في الطبيعة، هذا بالإضافة إلى أن المواليد لا تتساوى أبدًا مع الوفيات، فأيام الحرب والجوع والأمراض والطوفان والزلازل تزيد الوفيات، وأيام السلم والرخاء تزيد المواليد.

 

3 - إن النفس لا تتصل بالبدن إلا بعد أن يكون له الصلاحية والاستعداد التام لقبولها، فالجماد والنبات والحيوانات غير صالحة لتقبل النفس الإنسانية، وكذا بدن عمرو لا يصلح بحال لأن يتقبل نفس زيد، لأنه منذ تكوينه في بطن أمه تتصل به نفسه المختصة به، ولا تنفك عنه بحال، وإلا لزم تخلف المعلول عن علته، وبعد أن تتصل به نفسه الخاصة لا يمكن أن تنتقل إليه نفس أخرى، إذ لا تجتمع نفسان في بدن واحد، كما لا يشترك بدنان في نفس واحدة.

 

وبالتالي، فلا أحد منّا يشعر بأن له نفسين مختلفتين تتصرفان بشؤونه وبدنه، وإنما الذي يحسه ويشعر به أن له ذاتًا واحدة لا غير، وأنه لا يعلم شيئًا عمّا كان قبل حياته هذه، كما أنه لا يجد ولن يجد شخصًا يماثله في جميع صفاته النفسية، ومن هذا يتبين أن التناسخ وهم وهراء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المجلد الرابع عشر من بحار الأنوار المعروف بالسماء والعالم.

(2) رسالة الباب المفتوح للشيخ علي بن يونس نقلها صاحب البحار في مجلد السماء والعالم.

(3) المبدأ والمعاد لصدر المتألهين الشيرازي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد