علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

بين تفكيكيَّة دريدا وعرفانيَّة دو سارتو

كان فيلسوف التفكيكيَّة جاك دريدا (2004-1930) Jacques Derrida، أكثر الفلاسفة الفرنسيين قرباً واهتماماً بأعمال دو سارتو - الفيلسوف وعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي Michel de Certeau (1925-1986) - إلاَّ أنه لم يكن على وئام مع دربته، لا في “الحكاية العرفانيَّة” ولا في مسعاه لابتكار (براديغم) للدراسات الأنثروبولوجيَّة والمابعد حداثيَّة.

 

غير أنَّ هذا الفيلسوف كان يقف بإجلال تلقاء شخصيَّته المفارقة. والذين عاينوا كتابات دريدا في متاخماته للعرفان المسيحيِّ لحظوا افتتانه بكتاباته العرفانيَّة رغم نفيه شائعة الوصل مع العرفان، ومع ذلك فقد دعا إلى الاهتمام بالحكاية العرفانيَّة نصَّاً وتجربة معنويَّة.

 

أما ميشال دو سارتو، وهو مؤرِّخ العرفان المسيحيِّ -حسب البروفسور محمد شوقي الزين-، فقد جعل من “العرفانيِّ” نموذج (براديغم) الدراسات الأنثروبولوجيَّة والمابعد حداثيَّة، ذلك بأنَّها – تبعاً لمنطقه البحثيِّ- تقوم على البحث عن التفاصيل ووفرة المجازات، وهما قيمتان تدبِّران أيضاً التفكيك الدريدي: «إنَّ العرفانيَّ هو الذي لا ينفكُّ عن السير والذي، بتيقُّنه بالأمر المسلوب منه، يعرف في كلِّ مكان ومن كلِّ موضوع أنَّه ليس هذا، وأنَّه لا يمكن الإقامة هنا ولا الاكتفاء بهذا. الرَّغبة تصنع الإسراف، وهي تتجاوز وتَعبُر وتفقد الأمكنة. إنَّها تقود نحو البعيد، نحو مكان آخر، ولا تسكن في أيِّ مكان، بل إنَّها مسكونة».

 

كانت العلاقة بين بطليْ الاختلاف، الأول في الفلسفة، والثاني في الثيولوجيا، غير مباشرة. أشار دو سارتو إلى دريدا في العديد من كتاباته، وخصَّص له دريدا مقالاً عنوانه «عدد الـ”بلى”»، المنشور مع مجموع مقالات حول ميشال دو سارتو تحت إشراف لوس جيار، سنة بعد وفاة صاحب «الحكاية العرفانيَّة».

 

يُعتبر مقال دريدا بمنزلة رمز، كإجلال وتقدير، للتعبير عن الاهتمام الذي كان يوليه لأعمال دو سارتو العرفانيَّة ويقول: «مثلما أنَّني لا أنسى ما كتبه ميشال دو سارتو حول الكتابة في النص العرفانيِّ: إنه أيضاً، من أوَّله إلى آخره، عبارة عن وعد».

 

لا تشي مقالة دريدا بحقِّ دو سارتو بتبرئة نفسه من الورطة العرفانيَّة التي ظلَّ منها على حذر طيلة مكابداته الفلسفيَّة. لهذا سيدعو الزين إلى وجوب التركيز على العرفانيِّ الذي يرتبط بشكل وطيد بالسرِّيِّ أو الباطنيِّ والذي ينظِّم، خُلسةً بعض كتابات دريدا.

 

يبدو الأمر على هذا النحو من التأويل رغم رفض دريدا مَيْلَه نحو أي ذوق عرفانيّ. لكن العرفان الدريديَّ الذي يقصده الزين ليس العرفان بالمعنى المبتذل، وإنما ذاك الذي له بالكتابة شُحنة وشُجنة، له رابط وثيق وموثوق فيه، والذي ينطوي على قيم السماع (l’écoute, Hören) والسرِّ (le secret).

 

لكن السؤال الذي يطرح في هذا المجال هو إمكان أو استحالة وجود مشترك أبستمولوجيٍّ ومنهجيٍّ بين دريدا ودو سارتو. في كتابه «دريدا والثيولوجيا»، استطاع فرانسوا نولت (François Nault) توضيح المفترضات اللاَّهوتية عند دريدا، أو ما سمَّاها «بقايا لاهوتيَّة».

 

هل يمكن الحديث عن تقاطع بين التفكيك الديريديِّ والعرفان كما يقدِّمه دو سارتو بينما يتداخل الثيولوجيُّ والتفكيكيُّ في حقل التفكير نفسه؟

 

من الجدير بالذكر أنَّ المباحث الدينيَّة تظهر عند دريدا حيناً بشكل بارز وحيناً بصورة خفيَّة. في مداخلة قيّمة عنوانها «غيريَّة الآخر بشكل آخر: على خطى جاك دريدا»، قام فرنسيس غيبال بالإشارة إلى البُعد العرفانيِّ الممكن اكتشافه عند دريدا. يقول: «إذا كان بالإمكان إيجاد صبغة “عرفانيَّة”، فبشرط تحديد أنَّه عرفان المنطلق والهجرة (exode)، وليس عرفان الحلول والعودة إلى الواحد».

 

كان دريدا معتمداً في ذلك على تعريف دو سارتو للعرفان والذي يشتمل على طريقته هو في الرؤية والتقصِّي، ويمكن تعداد بعض الجوانب العرفانيَّة في الهجرة والتَشتُّت (السفر أو المنفى)، في الرغبة (أو النقصان والفقدان)، وأخيراً في ما لا يمكن تسميته، أو المسكوت عنه في شكل قرار غير حاسم: “ليس هذا” (ce n’est pas ça).

 

لقد استطاعت الأسئلة والأجوبة على مداخلة فرنسيس غيبال أن تدقِّق في هذا النزوع العرفانيِّ لدى دريدا، لكن دائماً بتحفُّظه هو نفسه عن إلصاقه بأيِّ نوع من العرفان، حيث قدَّم ملاحظة هامَّة بقوله: «بلا شكٍّ هناك الافتتان بالغياب. ولا أصف هذا الافتتان أو الولع بكلمات سيكولوجيَّة أو وجوديَّة، ولكن يمكن فعل ذلك. إنَّ الشيء الذي يشبه الافتتان في عمليَّة الكتابة أو في عمليَّة التفكير، هو الطور أو النمط الأساس لدافع الإثبات».

 

وفي تدخُّل آخر، يعبِّر عن رفضه لكلِّ نزوع عرفانيٍّ بقوله: «أقول شيئاً آخر بالنسبة إلى العرفان. إذا أخذنا هذه الكلمة في معناها المبتذل، في شكل تجربة في الحضور والاتصال والحدس، أقول بأنِّي أبعد ما يكون عن العرفان وأقلُّ ميلاً نحو العرفان حتى وإن كنتُ أحلم بذلك».

 

لكنه يُدرج فارقاً طفيفاً وأساسيّاً عندما يقول: «لا أقول بأنَّه ليس لديَّ ذوق عرفانيٌّ، ولكن ثمة ضرورة تحكم حياتي في مجملها هي غريبة تماماً عن العرفان في دلالته المبتذلة. يضيف: لا أتذكَّر حرفياً تعريف دو سارتو للعرفان، ولكن عندما سمعته، قلتُ في نفسي: ولم لا؟ وسنكون على قوله أيضاً والانخراط فيه».

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد