علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

كيف يعقل الاعتماد على الحواس في إثبات وجود الله تعالى؟!

السؤال: كيف يمكننا الاعتماد على حواسنا في إثبات وجود الله ما دامت تخطأ؟ فمثلاً عندما نضع ملعقةً في الكوب نراها على غير الحقيقة، فعند ذلك لا يمكننا أن نثق بحواسنا أبداً؛ لأنّه ربما الذي تراه هو غير صحيح، فكيف نحلّ هذا الإشكال؟

 

الجواب: لعلّه حصل التباس جزئيّ ما، أدّى إلى هذا السؤال، وذلك:

 

أولاً: إنّ المسلمين يقولون بأنّ الله لا يدرك بالحواس ـ لا أقلّ في الدنيا ـ ومن ثم فهم لا يقولون بأنّنا نثبت وجود الله بالحواس، فعندما أقول بأنّني أثبت وجود (أ) بالحواس فهذا يعني أنّني أراه أو ألمسه أو نحو ذلك، مع أنّ المسلمين لا يقولون بأنّ الله يثبت بالحواس، وحتى لو راجعت كتب الفلسفة والكلام عند المسلمين فإنّك لن تجد دليلاً حسيّاً ـ بالمعنى الحرفي للكلمة ـ على إثبات وجوده سبحانه، بل أدلّتهم كلّها تقوم على العقل أو الوجدان والروح، مثل برهان الإمكان والوجوب، وبرهان الصدّيقين الصدرائي، وبرهان الحدوث، وبرهان الحركة الأرسطي، وبرهان التوجيه والاستهداء وغير ذلك من البراهين التي أقاموها، والتي أوصلها بعضهم إلى حوالي عشرين برهاناً، فإنّ كبرى القياس المنطقي في هذه البراهين غير حسيّة، بل هي كليّة، والكلّي عندهم غير محسوس؛ إذ الحسّ لا يتعلّق عندهم إلا بالجزئيّات.

 

ثانياً: انطلاقاً من النقطة السابقة، فإنّه من الممكن أنّكم تقصدون تلك البراهين العقليّة على وجود الله، والتي تقوم على مقدّمات بعضها حسّي، مثل برهان النظم الذي يقوم على رصد التوازن والنظام الكوني من خلال الحواس للوصول إلى تشكيل مقدّمة منطقيّة يمكن أن نضمّها إلى مجموعة مقدّمات غير حسيّة، فيتشكّل من ذلك برهانٌ فلسفي أو كلامي على وجود الله تعالى.

 

ووفقاً لذلك يأتي السؤال عن قيمة هذه المقدّمة المستوحاة من الخدمات التي توفّرها لنا الحواس في هذا المجال، وهذا يعني أنّ الفيلسوف الإلهي عليه أن يُثبت قيمة المعرفة الحسيّة قبل أن يقدّم دليلاً من هذا النوع، وهذا الكلام صحيح تماماً؛ ولهذا بحث الفلاسفة في قسم المعرفيّات (الإيبستمولوجيا) من الدراسات الفلسفيّة عن قيمة المعرفة العقليّة والحسية، وأثبت جمهورهم هناك أنّ المعرفة الحسيّة يمكن أن توصل إلى يقين.

 

لكنّ جمهور فلاسفة الإسلام اعتبروا أنّ المعرفة الحسيّة عندما يراد تحويل ناتجها إلى قضيّة كليّة عامّة ـ كما هي طبيعة عمل العلوم الطبيعية عادةً ـ لابد من الاستعانة فيها بالعقل الذي يقوم بتزويدنا بمجموعة من القضايا التي نضمّها إلى معطيات الحسّ، لكي نقوم بتوفير النتيجة العلميّة الكليّة في مجال المحسوسات، ومن هذه القواعد عند جمهور فلاسفة الإسلام قاعدة العليّة أو السببيّة التي لا يمكن ـ من وجهة نظرهم ـ التوصّل إلى أيّ قانون علمي في الطبيعيات من دونها مهما قمنا بالتجارب أو الملاحظة والمشاهدة، فكلّ فيلسوف لا يرى قيمةً للحسّ فلن يمكنه إثبات وجود الله بتلك البراهين التي تستقي ـ ولو واحدةً من مقدّماتها ـ من الحواس عبر التجربة أو الملاحظة.

 

لكنّ الشيء المهم الذي ينبغي لنا أن نعرفه هو أنّ براهين إثبات وجود الله على نوعين:

 

أ ـ البراهين القائمة على معطيات حسيّة في بعض مقدّماتها، كبرهان النظم، أو برهان التوجيه والاستهداء، أو برهان الحركة الأرسطي.

 

ب ـ البراهين التي تقول بأنّها لا تحتاج لأيّ مقدّمة حسيّة إطلاقاً، مثل برهان الصدّيقين بصيغه الخمس منذ عصر الفارابي وابن سينا إلى زمن الملا صدرا ثم العلامة الطباطبائي، بل بعض صيغ (برهان آنسلم) الذي أخذه الكثيرون من فلاسفة الغرب مثل ديكارت وغيره، فإنّ هذا النوع من الأدلّة لا يحتاج لأيّ مقدّمة حسيّة، بل هي دوماً مقدّمات عقلية محضة، بحيث يمكن للفيلسوف إثبات وجود الله عبرها ولو لم يخرج من منزله إطلاقاً ولم يرَ نظام الكون أساساً ولم تمدّه العلوم الطبيعية بمعلوماتها المذهلة حول العالم والفضاء والخلق والطبيعة. فلو قال الفيلسوف بعدم حجيّة المعرفة الحسية فهذا لا يعني سقوط كلّ أدلّة وجود الله، حيث إنّ بعض الأدلّة لا يستعين بالحس ولا بالعلوم الطبيعية إطلاقاً.

 

ونحن نعرف أنّ هناك خلافاً في الأولويّة البرهانية، فهل البراهين العقليّة المحضة هي الأفضل والأقوى منطقيّاً كما يرى ذلك جمهور الفلاسفة العقليين، ولهذا تجد كثيرين منهم يتفاخر بأنّه لا يقدّم براهين إثبات الباري تعالى من خلال الحسّ، وهو ما دفع بعضهم إلى اعتبار برهان النظم مفيداً للاطمئنان لا اليقين البرهاني الفلسفي بالمعنى الخاصّ للكلمة، وصنّفوه على البراهين الكلامية أكثر من البراهين الفلسفيّة.. أم أنّ البراهين المنطلقة من مقدّمات حسية أوّلية هي الأفضل والأوفق بنظام التفكير الإنساني كما كان يرى الفيلسوف محمّد إقبال اللاهوري، وهو ما لعلّه يظهر الميل إليه نسبيّاً من قبل مثل السيد محمد باقر الصدر، حيث اعتمد هذا النوع من البراهين في كتبه الفلسفيّة والكلاميّة؟ فمن يجعل البراهين ذات المقدّمات الحسية أفضل يجب عليه أكثر حلّ إشكال قيمة المعرفة الحسيّة، بخلاف الذين لا يفضّلون إلا البراهين المتمحّضة في البُعد العقلي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد