قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ..} لا تدلُّ على تزكية أحد (2)

الرضا مراعى بالاستقامة والثبات إلى منتهى العمر:

 

والجواب الثالث هو أنَّه لو تمَّ التسليم بأنَّ الله تعالى قد رضي عمَّن سبق إلى الهجرة ولكن ذلك ليس إلى الأبد حتى لو ارتكب - هذا السابق للهجرة أو ذاك - كبائر الذنوب، ومات وهو ظالم لنفسه أو ظالم لأولياء الله أو لبعض عباد الله جلَّ وعلا، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ/ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(1) فأصحاب الجنة الذين لا خوفٌ عليهم، ولا هم يحزنون هم الذين استقاموا، ويقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}(2)

 

ويقول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا / لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}(3) فالذين سيُجزيهم الله أحسن الجزاء هم الصادقون الذين ما بدَّلوا تبديلاً.

 

ويقول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(4) فأيُّ رجلٍ أيَّاً كان وزنه وعملُه انقلب على عقبيه فلنْ يحظى بالجزاء الحسن وإنْ كان أوَّل أمره مستقيماً، فبقاء الرضا واستحقاق الجزاء منوط بالاستقامة والوفاء بالعهد والثبات على الصدق والطاعة إلى منتهى العمر، ولهذا لا يصحُّ القول بأنَّ هذا أو ذاك قد رضيَ الله عنه لمجرَّد أنَّه سبَق إلى الهجرة إذا كان قد هدم وختم أعماله الصالحة بالعصيان والطغيان والتمرُّد على الله ورسوله (ص).

 

ولهذا استفاضت الروايات عن الرسول الكريم (ص) من طرق الفريقين أنَّ الكثير من أصحاب النبيِّ (ص) سيُذادون ويمنعون عن الحوض يوم القيامة لأنَّهم أحدثوا وبدَّلوا بعد النبيِّ الكريم (ص) وارتدُّوا على أدبارهم ورجعوا القهقرى:

 

فمن ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنَّه كان يُحدِّث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يردُ عليَّ يوم القيامة رهطٌ من أصحابي فيجلَون عن الحوض فأقولُ: يا ربِّ أصحابي، فيقولُ: إنَّكَ لا علمَ لك بما أحدثوا بعدك، إنَّهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى"(5)

 

قوله (ص): "فيجلَون عن الحوض" يعني يُطردون، ويُصرفون عن الحوض، وفي بعض الروايات "يُحلئون" ومعناه يمْنَعُونَ ويُطردون يُقَال: حلأه عَن المَاء إِذا طرده وَمنعه مِنْهُ. ومعنى "الْقَهْقَرِى" هُوَ الرُّجُوع إِلَى الخلف، فمفاد قوله (ص): "ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى" هو أنَّهم رجعوا عمَّا كانوا عليه فأحدثوا وبدَّلوا.

 

ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن شهاب عن ابن المسيب أنَّه كان يُحدِّثُ عن أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "يردُ عليَّ الحوضَ رجالٌ من أصحابي فيُحلؤون عنه فأقول: يا ربِّ أصحابي فيقول: إنَّك لا علمَ لكَ بما أحدثوا بعدك إنَّهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى"(6)

 

ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: بينا أنا قائمٌ فإذا زمرةٌ حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، فقلتُ أين؟ قال: إلى النار والله، قلتُ: وما شأنُهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرةُ حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، قلتُ: أين؟ قال: إلى النار والله، قلتُ: ما شأنُهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلصُ منهم إلا مثلُ همَلِ النَّعْمِ"(7)

 

قوله (ص) : "فإذا زمرةٌ حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم.." يعني أنَّهم يعرضون على النبيِّ (ص) جماعاتٍ جماعاتٍ، فإذا اقتربوا حِيل بينهم وبين النبيِّ (ص) وأُمِرَ بهم إلى النار، فلا يخلصُ ولا ينجو من أصحابه إلا مثل همَل النَّعْم كناية عن القلَّة، فــ "همَل النعم" هي الإبل المهملة الضالَّة، فمعنى الرواية أنَّه لا ينجو من أصحابه سوى القليل الذي لا يتجاوز تعدادهم عدد الإبل الضالَّة والمهملة.

 

ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن أنس رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "ليردنَّ عليَّ ناسٌ من أصحابي الحوضَ حتى إذا عرفتُهم اختلجوا دوني فأقول: أصحابي فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك"(8)

 

قوله (ص) : "اختلجوا دوني" يعني - كما أفاد ابن حجر- "يُنزعون ويُجذبون منِّي، يقال: اختلجه منه: إذا نزعه منه أو جذبه بغير إرادته" ومعنى ذلك أنَّ الملائكة تنزعهم وتبعدُهم عن الرسول الكريم (ص) وعن حوضِه فيمنعون من ورود الحوض والشرب منه. فيقول الرسولُ الكريم (ص): أصحابي وقد عرفهم فيقال له: لا تدري ما أحدثوا بعدك.

 

ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إني فرَطكم على الحوض، من مرَّ عليَّ شربَ، ومن شرِبَ لم يظمأْ ابداً، ليردنَّ علىَّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني ثم يُحال بيني وبينهم" قال أبو حازم فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال هكذا سمعتَ من سهل فقلتُ: نعم فقال: اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعتُه وهو يزيد فيها فأقول: إنَّهم منِّي، فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سُحقاً سُحقاً لمَن غيَّر بعدي"(9)

 

قوله (ص): "إنِّي فرَطكم على الحوض" يعني أمامكم أسبقُكم إلى الحوض، فالفرَط هو السابق للقوم، الذي يسبقهم حتى يهيّئ لهم المنزل والماء وما يحتاجونه، فيقول (ص) فيردُ عليه أقوام منه يعرفهم ويعرفونه فيُحال بينه وبينهم أي يمنعون من الاقتراب من النبيِّ الكريم (ص) ومن الورود لحوضه، فيُحرمون من الشرب منه. وحين يقال للنبيِّ (ص) "إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك" يقول (ص): "سُحقاً سُحقاً لمَن غيَّر بعدي" أي بُعداً بُعداً لمن غيَّر وبدَّل بعدي. يقال سحيف بمعنى بعيد وأسحقه أي أبعده.

 

ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّكم تُحشرون حفاةً عراة... وإنَّ أناساً من أصحابي يُؤخذُ بهم ذاتَ الشمال، فأقولُ أصحابي أصحابي فيُقال: إنَّهم لم يزالوا مرتدِّين على أعقابهم منذُ فارقتَهم، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إلى قوله الحكيم"(10)

 

قوله (ص): "يؤخذُ بهم ذات الشمال" يعني جهة الجحيم كما فال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ / فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ / وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ / لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ/ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ / وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}(11) فيقول النبيُّ الكريم (ص) أصحابي أصحابي فيقال له: "إنَّهم لم يزالوا مرتدِّين على أعقابهم منذُ فارقتَهم" أي أنّهم نقضوا العهد ولم يستقيموا على الصراط القويم من حين فارقتهم. أي ظهر انحرافهم بعد رحيلك عنهم من الدنيا.

 

ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن المغيرة قال: سمعتُ أبا وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "أنا فرَطُكم على الحوضِ، وليُرفعنَّ رجالٌ منكم ثم ليُختلَجنَّ دوني، فأقول يا ربِّ أصحابي فيُقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك"(12).

 

قوله (ص): "وليُرفعنَّ رجالٌ منكم ثم ليُختلَجنَّ دوني" يعني سيُمنع رجالٌ منكم ويُحال بينهم وبين الوصول للحوض، "ثم لِيُخْتَلَجُنَّ": والاختلاج وهو الجذب بشدَّة والمنع بعنف، أي إنَّهم سيُجذبون ويُمنعون من الوصول للنبيِّ الكريم (ص) والورود للحوض منعًا شديداً. فيقول النبيُّ الكريم (ص): "يا ربِّ أصحابي فيُقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك"

 

ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يخطبُ فقال: "إنَّكم محشورون حفاةً عراة {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية وأنَّ أوَّل الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم وأنَّه سيُجاء برجالٍ من أمتي فيُؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصيحابي فيقول الله: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إلى قوله الحكيم قال: فيُقال: إنَّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذُ فارقتَهم" (13)

 

فهذه الروايات وغيرها كثير تدلُّ على أنَّ الصحبة والهجرة والنصرة لا تُجدي نفعاً ولا تُوجب النجاة ما لم يتعقَّبها استقامة وثبات على الهدى والطاعة لله ورسوله (ص) إلى منتهى العمر. وتدلُّ على أنَّ المدح بالهجرة والنصرة والإخبار عن الرضا مراعى بالثبات والاستقامة وعدم ارتكاب ما يُوجب السخط الإلهي، فلا يصح التمسُّك بالمدح وقطع النظر عن العاقبة، فالأمور بخواتيمها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-سورة الأحقاف: 13، 14.

2-سورة فصلت: 30.

3- سورة الأحزاب: 23، 24.

4-سورة آل عمران :114.

5- صحيح البخاري- البخاري- ج7/ 208.إمتاع الأسماع- المقريزي-ج14/ 223.

6- صحيح البخاري- البخاري-ج7/ 208. التمهيد -ابن عبد البر-ج2/ 298، ورواه الصنعاني في المصنف عن أبي هريرة ج11/ 407

7-  صحيح البخاري- البخاري-ج7/ 208.عمدة القاري- العيني-ج23/ 142.

8-  صحيح البخاري- البخاري-ج7/ 207. ورواه أحمد بن حنبل عن حديفة ج5/ 393.

9- صحيح البخاري- البخاري-ج7/ 208.عمدة القاري- العيني-ج14/  140

10- صحيح البخاري- البخاري- ج4/ 110. عمدة القاري- العيني-ج15/ 241.

11-سورة  الواقعة :41، 46.

12- صحيح البخاري- البخاري-ج7/ 206.مسند أحمد - أحمد بن حنبل-ج1/ 439.

13-صحيح البخاري- البخاري-ج7/ 240 . صحيح مسلم - مسلم النيسابوري-ج8/ 175، سنن الترمذي- الترمذي-ج5/ 4، مسند أحمد - أحمد بن حنبل-ج1/ 253.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد