يقول الله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) سورة النساء: 82. ألا يُعدُّ اختلاف المفسَّرين مناقضاً لهذه الآية؟ وكيف لا يكون في القرآن اختلاف كثير والمفسرون مختلفون في تفسيرة؟!
المراد من الاختلاف:
الواضح من الآية المباركة أنها بصدد البرهنة على أنّ القرآن الكريم من عند الله تعالى وليس من صياغة أحد غيره من البشر، والبرهان الذي قدَّمته الآية لإثبات هذه الدعوى هو خلوُّه من الاختلاف بين آياته.
والمراد من الاختلاف المنفي عن آيات الكتاب المجيد هو التناقض بين معاني الآيات، بحيث يكون مدلول بعض الآيات يقتضي شيئاً، ويكون مدلول آياتٍ أخرى يقتضي نقيض ذلك الشيء، وكذلك فإنَّ المراد من الاختلاف المنفي هو التفاوت في مستوى آياته من حيث الفصاحة والبلاغة وقوة النظم، بحيث تكون بعض آياته في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة، والبعض الآخر في أدنى درجات الفصاحة والبلاغة وقوة النظم، أو أنَّ بعضها يكون فصيحاً بليغاً، ويكون البعض الآخر ركيكاً مهلهلاً، وكذلك فإنَّ معنى الاختلاف المنفي عن القرآن في الآية المباركة هو عدم التجانس في المنهجية بين آيات القرآن، بحيث تكون على غير نسقٍ واحد، كأنْ تقتضي بعضُ آياته الدعوةَ إلى منهاج، ويقتضي البعضُ الآخر الدعوة إلى منهاجٍ آخر، أو أن تكون معظم آياته مقتضية لمنهجٍ واحد، وتشذُّ منه آياتٌ فتكون على غير النهج الذي عليه سائر الآيات.
وجه الاستدلال بعدم الاختلاف:
فالاختلاف بهذا المعنى هو المنفي عن القرآن الكريم، ووجه دلالة ذلك على أنَّه من عند الله تعالى هو أنه لا يتفق لكتابٍ بحجم القرآن متنوَّعٍ في موضوعاته استغرق نزوله أكثر من عقدين من الزمن، ثم لا يتفق وقوع التهافت في بعض فقراته من حيث المعنى أو المنهج أو التفاوت في مستوى نظْمه من حيث الفصاحة والبلاغة.
وها نحن نقف على دواوين الشعراء المتميَّزين فنجد تفاوتاً بيّناً في قصائدهم، حتى قيل إنَّ الشاعر ليس شاعراً في جميع قصائده، بل لا يكاد يتفق اتحاد قصيدةٍ واحدة في قوة النظْم ومستوى البلاغة والفصاحة، فنجد أنَّ بعض أبيات القصيدة الواحدة يكون أفصح وأبلغ من البعض الآخر، بل كثيراً ما نجد أنَّ بعض أبياتها يكون بليغاً، ويكون البعض الآخر ذميماً مُستوحَشاً. وكذلك عندما نقف على خطب البلغاء ومحاوراتهم.
وأما ما يكتبه الحكماء والمتميَّزون من العلماء فالأمر فيه أكثر وضوحاً، فلا يكاد يتفق لعالمٍ أو حكيم واحد أن يحتفظ بمجموع أرائه الكثيرة على مدى عقدين من الزمن، دون أن يطرأ على بعضها تغيير أو تعديل، بل لا يتفق ذلك في أقصر من هذا الزمن، فكلُّ عالمٍ يجد نفسه في سنته الثانية أكثر علماً وفهماً من سنته الأولى وهكذا، ولهذا يطرأ على الكثير من أرائه تغيير أو تنضيج وتطوير.
وهكذا الحال عند رجال القانون، فهم مجتمعون يتبانون على منظومةٍ من القوانين يشيَّدونها ثم يروَّجون لها، فلا يلبثون حتى يقفوا على أخطاء فيما قنّنوا له، وقد كانوا يرونها صواباً، أو يقفوا على ثغراتٍ فيرون لزوم تداركها.
وأما القرآن الكريم والذي نزل نجوماً على مدى أكثر من عقدين من الزمن، فرغم أنَّ المعاني التي تصدى لبيانها متنوعة، فبعضها يتصل بسنن التاريخ والبعض الآخر يرتبط بالتشريع على تشعُّبه وسعة تفاصيله، وبعضها تصدى لبيان أصول العقائد، وآياتٌ تصدَّت لبيان القيم والفضائل، وتحدَّثت آياتٌ عن حوادثَ وقعت في التاريخ ووصَّفت لأحداثٍ وقعت في عصر النص، وكشفت عن مغيَّبات أخبرت عن وقوعها في مستقبل الأيام أو السنين، فرغم تنوُّع الموضوعات التي تناولتها آيات القرآن، ورغم تفاوت الزمن الذي نزلت فيه، ورغم اختلاف الأسباب التي نشأ عنها النزول، ورغم تباين الأحوال والظروف، فآيات نزلت والحرب قائمة، وأخرى نزلت في ظرف السلم، وبعضها نزلت بعد النصر، وبعضها نزلت بعد الهزيمة، ونزلت آياتٌ في السفر، وأخرى في الحضر، وآيات نزلت والنبي(صلى الله عليه وآله) في شِعب أبي طالب محاصرٌ، ونزلت حينما كان طريداً يقذفه صبيان الطائف بالحجارة، ونزلت حينما خرج من مكة شريداً يتوارى عن أعين المشركين في حجور الجبال، ونزلت حينما عاد إليها فاتحاً مظفرَّاً.
وخاطبت آياتُ القرآن صنوفاً من الناس، ففي آياتٍ كان الخطاب للمشركين وفي آياتٍ كان الخطاب للمؤمنين، وخاطبت آياتٌ أهلَ الكتاب من اليهود والنصارى وخاطبت في مواردَ أخرى المنافقين، وثمّة خطابات كانت للمترفين والجبَّارين وأخرى كانت للمستضعفين.
فرغم كلّ ذلك التباين في الأحوال والظروف، ورغم كلّ هذا التنوُّع في الموضوعات والخطابات، لا نجد فيه تفاوتاً في النظم، فلا تقف على آية يصحُّ أن يُؤتى بأحسنَ منها، وأما الشعراء أعني فحولَهم والأدباء المتميَّزين منهم فهم يكتبون ويحذفون، وكلما تعاقب الزمن وجدوا أنهم لو اختاروا هذا اللفظ في موضعِ اللفظ الذي أثبتوه لكان أولى، تراهم يستحسنون شيئاً كتبوه ثم يمجُّونه أو يرغبون في أحسنَ منه، وقد كانوا بذلوا وسعهم في تنظيمه وتزويقه، وما كان النبي (ص) يقف على ما أُلقي عليه فألقاه فيُسقط لفظًا كان قد أثبته أو يستبدل لفظًا محل لفظٍ آخر، رغم أنّ أحوال الصدور كانت متفاوتة وهو ما يقتضي اغتشاش المزاج وانبساطه، وذلك ما ينعكس على البيان لو كان قد جاء به من عنده، ورغم تعاقب الزمن وطوله وهو ما يقتضي انصقال القريحة واتساع القدرة الإبداعية لا نجد النبي(صلى الله عليه وآله) قد وقف على آيةٍ كان قد بلَّغها في صدر الدعوة فاستبدل بعض ألفاظها أو غيَّر نظمها، فها نحن نجد آياتٍ مكيَّة ضُمَّنت في سورٍ مدنيَّة وأخرى مدنيّة ضمَّنت في سورٍ مكيّة، فلا يكاد أحد قادراً على أن يُميّز بين مكيَّ الآيات ومدنيّها من حيث قوة النظم ورصانة السبْك وجزالة اللفظ، فلا تفاوت بين آيةٍ نزلت في صدر الدعوة وأخرى نزلت حين أزف الرحيل.
ورغم تعاقب السنين وتباين الأحوال وتراكم التجارب المقتضي، كلُّ ذلك لنموّ العقل وشحذ الذهن وصقل المواهب وتعاظم الاستعداد النفسي والفكري، لا نجد تمايزاً في مستوى العرض للمفاهيم والأفكار والمعارف والتشريعات، فهمي منظومةٌ متناغمة متجانسة ذاتُ سياقٍ واحد، فليس في ثناياها ما ينقض الآخر، بل إنَّ بعضها يقوَّم الآخر، بل يقف المتدبَّر لآيات القرآن على منظومةٍ عقائدية وأخرى قيميَّة وثالثة تشريعيَّة، ومنظومة في سنن التاريخ مفعمةٌ بتوصيف متناهٍ في الدقة لأحوال السابقين من الأنبياء وتجارب الأمم، ثمّ حين يستعرض المتدبّر كلّ تلك الدوائر يجدها متداخلة متنظمة في إطار واحد لا ينبو منها شيء، ولا يُنافر بعضها الآخر. رغم أنَّ التباين في الأحوال والتباين في الزمان واختلاف الموضوعات يقتضي التدارك الدائم والتهذيب وإعادة التنظيم والترتيب.
فهذا ما تحدَّت به الآية المباركة عموم الناس مجتمعين ومنفردين الحاضرين منهم في زمن النصّ واللاحقين بهم إلى يوم الدين، فهي تُقدَّم القرآن بجموعِ آياته برهاناً على أنّه من عند الله تعالى، فليس في ميسور أحدٍ أن يأتي بكتابٍ في حجم القرآن مشتملٍ على موضوعاتٍ ذاتِ أبعاد مختلفة وجذور متباعدة يكتبه في أحوال متباينة ومتقلَّبة وحُقبٍ متباعدة ثم لا يستدرك على ما كتبه في صفحاته الأولى، فلا يشطب شيئاً مما كان قد دوَّنه، ولا يُعالج رأياً كان قد شيّده ببيانٍ يراه أكثر اتقاناً من الأول .
وأما النبي(صلى الله عليه وآله) فكان يُلقي على الناس الآيةَ في صدر الدعوة فيحفظونها ويدوَّنونها، ثم تمضي الأيام والسنون وتتقلب الأحوال فلا يتنظَّر فيها ولا يُعيد صياغتها ولا يستجدُّ عنده ما يدعوه لإسقاطها أو تهذيبها، فلو كان ما قد جاء به مسانخاً لما يأتي به البشر، لاقتضى ذلك أن يُضفى على ما جاء به حصائل ما أنتجته التراكمات في الخبرة والتجربة، إلا أنَّ الأمر لم يكن كذلك، بل إنَّه يضم ما كان قد بلَّغه إلى ما استجدَّ وحيُه فينتظم انتظام حبّات العِقد الزاهي على جيد فتاة بضَّةٍ ممشوقةِ القِوام فيبدو مجتمعاً (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة النور:35.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان