قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

المفاهيم القرآنية بين الجمود والتأويل (3)

المؤوّلة

إنّ المؤوّلة من الباطنية ليسوا بأقل خطراً من أصحاب الجمود، فقد وضعوا لتفسير المفاهيم الإسلامية ضابطة باطلة لا يوافقها العقل ولا دلّ عليها من الشرع شيء، قالوا:

للقرآن ظاهر وباطن، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر، وأنّ باطنه يؤدي إلى ترك العمل بظاهره، واستدلوا على ذلك بقوله سبحانه: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]. (1)

 

فإذا كانت تلك الضابطة في فهم الشريعة والعمل بالقرآن صحيحة، إذن أصبحت الشريعة غرضاً لكل نابل، وفريسة لكل آكل، فلا يبقى منها شيء، وفي هذه الحالة يدّعي كل مؤوّل أنّ الحق معه، وأنّ المراد ما اختاره من التأويل على الرغم من اختلاف تأويلاتهم، انظر إلى ما يقولون حول المفاهيم الإسلامية وأنّهم كيف يتلاعبون بها، فالصلاة عبارة عن الناطق الّذي هو الرسول، لقوله سبحانه: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

والغسل عبارة عن تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرار الباطنية من غير قصد، والاحتلام عبارة عن إفشائه، والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين، والجنة راحة الأبدان عن التكاليف، والنار مشقتها بمزاولة التكاليف (2).

فإذا كان ما ذكروه حقيقة الدين والتكاليف فلم يبق بين الديانة والإلحاد حد ولا فصل.

 

هذه نماذج من تأويلات الباطنية، وقد ظهرت بوادر هذه الفتنة ونبتت نواتها زمن المأمون العباسي إلى أن صاروا طائفة كبيرة حاقدة على الإسلام والمسلمين، ومحاربة لهم بغير السيف والنار، عن طريق الاحتيال الموصل لهم إلى مآربهم وأهوائهم.

ويليهم في التخريب والإضرار التصوّف الّذي جاء به ابن العربي شيخ هذه الطريقة، فقد قام بتأويل المفاهيم القرآنية على وجه لا دليل عليه، فيقول: إنّ جبرائيل هو العقل الفعّال، وميكائيل هو روح الفلك السادس، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع، وعزرائيل هو روح الفلك السابع (3).

 

كما يفسر قوله سبحانه: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ - بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19، 20] بأنَّ مرج البحرين هو بحر الهيولى الجسمانية الّذي هو الملح الأُجاج، وبحر الروح المجرّد، وهو العذب الفرات، يلتقيان في الموجود الإنساني، وأنّ بين الهيولى الجسماني والروح المجرّد برزخ، هو النفس الحيوانية الّتي ليست في صفاء الروح المجرّدة ولطافتها ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها.

ولكن مع ذلك لا يبغيان، أي لا يتجاوز أحدهما حدّه فيغلب على الآخر بخاصيته، فلا الروح المجرّدة تجرّد البدن وتخرج به وتجعله من جنسه، ولا البدن يجسّد الروح ويجعله مادياً (4).

تجد نظائر هذا في كتبه، كالفتوحات المكية، والفصوص، فيطبّق كثيراً من الآيات القرآنية على كثير من نظرياته الصوفية، وقد مني الإسلام بأصحاب الجمود في القرون الأولى وحتى الآن، كما مني بالمؤوّلة من الباطنية والمتصوّفة من أوائل القرن الثالث حتى الآن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). الفرق بين الفرق : 18.

(2). المواقف : 8 / 390.

(3). تفسير ابن العربي : 1 / 150.

(4). المصدر نفسه : 2 / 280 .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد