انظروا إلى الآيات التالية كيف تحكم بأمر الغيب على نحو القطع واليقين. (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). «1» (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى (عذاب الدنيا) دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). «2» حيث إنّ المراد بالعذاب الأدنى هنا، هو العذاب في الدنيا من حرب وجرح وقتل وأسر، مقابل عذاب البرزخ، لأنّ (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قرينة لهذا المعنى. ولو كان العذاب الأدنى أحد أنواع العذاب البرزخيّ أو حين الاحتضار، لما كان من أمل بالرجوع عن الذنب، لأنّ الأمر سيكون ممّا لا رجعة فيه.
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ، (بما أنّه لم يَحِنْ ذلك الزمن بعدُ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (ماذا سيحلّ بهم). «3» (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ). «4» (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) «5» (فيبقى أثره واضحاً على الدوام).
وهذه الآيات عائدة إلى الوليد بن المُغيرة، وكان من المشركين ومن أعداء رسول الله، وقد نزلت هذه الآيات في مكّة، وكان إذا تُليَت عليه آياتُ القرآن قال. ليس في الأمر من جديد، فهذا كلّه من أساطير الأوّلين. ويقول الله تعال . إنّنا سنسمه على خُرطومه أي على أنفه، وسماً يبقى ولا يزول.
وقد جاء هذا الرجل في وقعة بدر التي وقعت قرب المدينة في السنة الثانية للهجرة، ليحارب النبيّ مع المشركين، فهوى سيفٌ من سيوف المسلمين على أنفه، فبقي وسمه وأثره إلى آخره عمره.
وهذه الآية من آيات سورة ن وَالْقَلَمِ التي نزلت في بداية البعثة، وبينها وبين غزوة بدر أربع عشرة أو خمس عشرة سنة. وكان الوليد بن المُغيرة أحد الرجلين العظيمين اللذين كان المشركون يقولون. لِمَ لَم ينزل القرآن على أحد هذين الرجلين العظيمين (الوليد بن المغيرة وعُروة بن مسعود الثقفيّ)، وأوّلهما في مكّة والثاني في الطائف؟
وهو الذي جاء وصفه في سورة المُدَّثِّر التي نزلت أيضاً أوائل بعثة رسول الله في مكّة، حيث استمع الوليد إلى رسول الله وهو يتلو آيات القرآن، فاستمهل قومه ثلاثة أيّام ليفكّر، ثمّ جاءوه بعد ثلاث فقال. (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) «6» (بحيث يؤثّر في النفوس هذا التأثير القويّ).
(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). «7» وقد نزلت هذه الآية في مكّة المكرّمة في بداية البعثة؛ ولم تحصل أيّة حرب خلال مدّة ثلاث عشرة سنة التي عاش فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكّة، بل وقعت الحروب والغزوات بعد الهجرة إلى المدينة.
فكيف يخبر القرآن عن الغيب بمثل هذه القاطعيّة التامّة، فيُخبر عمّا سيؤول إليه حال المسلمين بعد هذه السنوات المتمادية؟ لقد افتقد رسول الله الناصر والمعين في بداية البعثة في مكّة، وكان المؤمنون في منتهى الضعف. لذا فقد صدر هذا الإخبار القرآنيّ دون أيّة أرضيّة ومقدّمة أوّلًا؛ وكان يمكن أن يُقتَل النبيّ قبل أن تقوى شوكة المسلمين أو يحلّ أجلُه فلا ينال الجهاد ثانياً. بَيدَ أنّ القرآن يُخبر بقاطعيّة وثبات أشبه بثبات الجبل الراسخ عن حياة النبيّ وجهاد المسلمين بعد الهجرة.
(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ). «8» وهذه الآية مكّيّة أيضاً، لأنّها من آيات سورة الرعد، وهي من السور المكّيّة؛ والله تعالى يوعد المستهزئين برسول الله في هذه الآية بالحرب والقتل والإصابة بالجراح وبالنكبة التي ستحلّ بهم.
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ). «9» (هو اللائق بالعبادة، أم من تشركون به). وهذه الآية الكريمة المباركة من آيات سورة النمل، وهي من السور التي نزلت في مكّة، وهي تعد المسلمين بالحكومة والخلاص من ذلّ مكّة وأذى أهلها.
(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً). «10» وهذه الآية الشريفة في سورة الإسراء، وهي أيضاً من السور المكّيّة. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً). «11»
وهذه الآية صريحة في أنّ الله تعالى سيمنّ على المؤمنين بقدرة وحكومة في الأرض، ليشكّلوا دولة كدولة الساسانيّين والهخامنشيّين والروم وأهل بابل وكلدة، بل أعلى وأهمّ. وقد تحقّق هذا الوعد، وصارت حكومة المسلمين واقتدارهم لا مثيل لهما في العالم، ونحن في انتظار الدولة الحقّة لقائم آل محمّد عليهم السلام التي ستتحقّق في المستقبل إن شاء الله تعالى، وهي دولة أعلى وأكثر نزاهة.
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). «12» والآيات من هذا القبيل كثيرة في القرآن الكريم. ولو اطّلع المرء على تأريخ الإسلام، وخاصّة على فترة بعثة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكّة، لعلم جيّداً أنّ قاطعيّة آيات القرآن الكريم ليست قابلة للوصف بأيّ وجه من الوجوه مع الظواهر التي تتمثل بغلبة الكفّار والمشركين وأذاهم لرسول الله وللذين آمنوا. وقد اشتهرت طائفة من المؤمنين برسول الله من أمثال خَبّاب بن أرَتّ وبَلال بن رِباح وأب عمّار ابن ياسر بالمعذَّبين، حيث ذاقوا صنوف العذاب في مكّة على أيدي الكفّار بجرم إسلامهم.
ويذكر التأريخ فصلًا خاصّاً للمحاصرة الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي طبّقها المشركون في حقّ رسول الله والمسلمين حين حاصروهم في شِعب أبي طالب ثلاث سنين. كما أنّ هجرة المسلمين إلى الحبشة وإقامتهم المديدة فيها تحتلّ فصلًا آخر في تأريخ الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - الآيتان 44 و 45، من السورة 54. القمر.
(2) - الآية 21، من السورة 32. السجدة.
(3) - الآيات 171 إلى 175، من السورة 37. الصافّات.
(4) - الآية 47، من السورة 52. الطور.
(5) - الآيتان 15 و 16، من السورة 68. القلم.
(6) - ذيل الآية 24، من السورة 74. المدّثّر.
(7) - مقطع من الآية 20، من السورة 73. المزّمّل.
(8) - الآية 34، من السورة 13. الرعد.
(9) - صدر الآية 62، من السورة 27. النمل.
(10) - الآية 81، من السورة 17. الإسراء.
(11) - صدر الآية 55، من السورة 24. النور.
(12) - الآية 33، من السورة 9. التوبة؛ والآية 9، من السورة 61. الصفّ.
الشيخ باقر القرشي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
عدنان الحاجي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ شفيق جرادي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد حسين الطبطبائي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
ضرورة التربية
بين عليّ (ع) وبعض أبنائه
الفتنة الغالبة (1)
شعبان ورمضان: شهرا التجلي والمعنويات
سرّ أسلوب مذاكرة الدّروس الفعّالة
(فضول الفنّ) معرض للفنّانة الواعدة زمان الغريافي
مهرجان تراثيّ في تاروت بمناسبة القرقيعان
لسان القرآن
آيات القرآن الكريم القاطعة في الإخبار بالغيب
الوصول إلى الحبّ الحقيقيّ