قرآنيات

المحادّة والكبت

الإمام الخامنئي "دام ظلّه"

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [سورة المجادلة: 5]

 

"يُحادّون" أصلها "يُحادِدون" وقد أُدغِمَت الدّالان فصارت "يُحادّون"، وجذرها اللغوي "حدَّ"، أيّ "مَنعَ". وقد فُسّرت "يُحادّون" بـ "يُعارِضون ويُعادون"، تذكّروا معنى "العداوة" ومعنى "الـمُعارضة" اللّذين ذكرناهما كمعنىً لكلمة "يُحادّون". ولكن أيّ نحوٍ من العداوة هو هذا؟

 

يتّضح الأمر من جذر الكلمة نفسها، وهو "الحدّ" أيّ "المنع"، فالحدّ هو الشيء الفاصل بين أمرين. فما معنى الحد الفاصل بين هذه الغرفة وذاك الدهليز مثلًا؟ إنّه الشيء الذي يمنع أن تكون هذه الغرفة جزءًا من ذاك الدّهليز، أو أن يكون هو جزءًا منها، لذلك يُقال للفاصل بين الدول "حدود".

 

وعليه، فإنّ التدقيق والتحليل في العداوة - وهي من معاني المحادّة - بالعودة إلى جذرها اللغوي، يجعلنا نفهم أنّ هذه المعارضة هي الحؤول دون دخول الإنسان ضمن الحدود الإلهية، أو دون أن تُداخِل المعارف الإلهية وجودَ الإنسان. أمّا المقصود من الآية فليس خصوص من كان عدوًّا لله ورسوله، بل كلّ من عاداهما، فالعدوّ غير المعادي، ونحن قد تشملنا الآية لأننا مع حبّنا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنّنا نعاديهم أحيانًا.

 

وهذا العداء يكون بمعنى منع الناس من الدخول ضمن الحدود الإلهية، أو منع المعارف والأحكام الإلهية من أن تنفذ في ذهن الإنسان أو عمله. يُقال لهذا النحو من  العداء "مُحادّة"، وهذا هو معنى "يُحادّون".

 

أمّا تحديد مصداق هذه المحاداة وأولئك الذين يحادّون الله، فنظرًا لوجود تيّارين متعارضين، هما التيّار الإلهيّ النبويّ والتيّار المضادّ لكلّ ما هو إلهيٌّ ونبويّ، يكون أولئك هم الذين يعملون على إزالة الحدّ الفاصل بين هذين التيّارين، أيّ يُجرون الأحكام المتعلّقة بالتيّار المعادي للتيّار الإلهيّ على هذا الأخير، فيعملون ضمن الحكومة الإلهيّة بَيدَ أنّهم لا يلتزمون بالأحكام الإلهيّة ولا يُراعون الحدود الإلهية.

 

والله تعالى يقول: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ﴾ وقال في آية أخرى ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. وعليه، فمراعاة الحدود الإلهية والانتباه لها وعدم تعدّيها هي من أعظم ما ينتظره الدّين من الـمُتديّنين، بمعنى أنْ تُصان الحدود الإلهية، سواءٌ حدود الفكر أم حدود الأحكام أم حدود القِيَم، يجب الحفاظ عليها جميعًا وعدم المساس بها، فلو مُسّت هذه الحدود فهذا هو التعدّي لحدود الله الذي جاء ذكره في الآية المباركة .

 

أمّا مصير هؤلاء الذين يحادّون الله ورسوله فقد حدّدته الآية بأنّه الكبت وهو بمعنى القمع، أي جعلُهم مُنزَوين وأذلّاء ومنعُهم من التقدّم والحركة، والحكمُ عليهم بذلك. والآية تتحدّث عن مصير أولئك الذين لم يؤمنوا وجابهوا تيّار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، من دون أن يعني ذلك أنّ الأمر هذا مختصٌّ بعصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل الآيات تذكر قانونًا عامًّا، لكنّ الله يبيّنه بلسان الحكاية عن ذلك العصر.

 

فأولئك الذين يُعارضون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويقفون في وجه حركته الثوريّة وتيّاره الإلهيّ، مصيرهم القمع، لا القمع على أيدينا نحن على نحو الحكم التكليفي - طبعًا من الممكن أن يُحكم عليهم بالقمع على نحو التكليف أحيانًا - فالله تعالى يقول لرسوله ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ لكن ليس هذا هدف الآية، بل إنّها تبيّن أنّهم بناءً على القوانين والنُظم الاجتماعية والتاريخية محكومٌ عليهم بـِ"الكَبْت" والقمع.

 

فكأنّه تعالى يقول: يا أهل الدنيا! ويا أبناء كلّ عصور التاريخ! اعلموا أنّ الذين يتصدّون لتيّار الرسول ويُقاومونه لن يبقوا على وجه الأرض، بل هم إلى فناءٍ وإلى زوالٍ ومحكومٌ عليهم بالانقراض. ﴿كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ والأمر لا يقتصر عليهم، بل لقد حُكِم على أولئك الذين وقفوا قبلهم مقابل تيّار النُّبُوات بالزوال وانقرضوا جميعًا. فالله تعالى يتحدّث عن قانون ٍكليّ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد