من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

الهجرة النبوية ومبيت علي (عليه السلام)

 

الشيخ جعفر سبحاني
أكثر المؤرّخين الشيعة والسنة نقل كيفية هجرة النبيّ، وخروجه من منزله، ثم من مكة بنحو مؤداه إسناد نجاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وخلاصه إلى عامل الإعجاز، وبالتالي فقد أسبغوا عليه صبغة الكرامة، والمعجزة.
في حين أن الإمعان في تفاصيل هذه القصة يكشف عن أن نجاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) كانت نتيجة سلسلة من الإجراءات الاحترازية، والتحسبات، والتدابير الحكيمة، وإن إرادة اللّه تعالى تَعَلّقت بأن ينجّي نبيّه الكريم، عن طريق الأسباب العادية المألوفة، وليس عن طريق التدخّل الغيبيّ وإعمال قدرته تعالى الغيبية.
ويدل على هذا المطلب أنَّ النبيّ توسل بالعِلل الطبيعية، والوسائل والأسباب العادية (كمبيت شخص في فراش النبيّ، واختفاء رسول اللّه في الغار وغير ذلك مما سيأتي ذكره)، وبهذا الطريق نجّى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) نفسه، وتخلصّ من أيدي أعدائه، العازمين على إراقة دمه.


ملك الوحي يخبر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله):
لقد أخبر ملك الوحي «جبرئيل» رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بخطة قريش المشؤومة لاغتياله وأمره بالهجرة، وتقرر ـ بغية إفشال عملية الملاحقة ـ أن يبيت شخصٌ في فراش رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ليتصوّر المشركون أنَّ النبيّ لا يزال في منزله، ولم يخرج بعد، وبالتالي يركّزوا كلّ اهتمامهم على محاصرة البيت، وينصرفوا عن مراقبة طرقات مكة، ونواحيها.
ولقد كانت فائدة هذا العمل أي حصر اهتمام المراقبين ببيت النبيّ أنه تسنى لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله) اغتنام الفرصة والخروج من مكة، والاختفاء في مكان مّا من دون ان يحس به أحد من الذين باتوا يراقبون بيته، ويبغون قتله.
والآن يجب أن نرى مَن الّذي تطوَّع للمبيت في فراش رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وفدى النبيّ بنفسه، ووقاه بحياته؟
ستقولون حتمًا: إن الّذي سبق جميع المسلمين إلى الإيمان برسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وبقي من بدء بعثته وإلى ذلك الحين يذب عنه، هو الّذي يتعيَّن أن يضحّي بنفسه في هذا السبيل، ويقي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بحياته في هذه اللحظة الخطيرة، وهذا المضحّي بحياته ونفسه، هو «عليّ» ليس سواه أحد، إنه تقدير صحيح، وحدس مصيب.
فليس غير «علي» يصلح لهذه المهمة الخطيرة.
ولهذا قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لعليّ عليه ‌السلام: «يا عليّ إنَّ قريشاً اجتمعت عَلى المكر بي وقتلي، وإنّه أوحيَ إليّ عن ربّي أن أهجرَ دار قومي، فنم عَلى فراشي والتحف ببردي الحضرميّ لِتُخفي بمبيتك عَليهم أثَري فما أنت قائل وصانع؟؟
فقال علي عليه‌ السلام أوْ تَسلَمَنَّ بِمَبيتي هناك يا نبيَّ اللّه؟
قال: نعم، فتبسّم عليّ عليه ‌السلام ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من سلامته، فلما رفع رأسه قال للنبيّ (صلى الله عليه وآله): امض لما أمرتَ فِداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومُرني بما شئتَ اكن فيه كمسرّتك، واقع فيه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلاّ باللّه.


ثم رقدَ عليّ عليه‌ السلام على فراش رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) واشتمل ببرده الحضرمي الأخضر، ولما مضى شطرٌ من الليل حاصرَ رَصَدُ قريش ـ وهم أربعون رجلًا ـ بيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وقد جرّدوا سيوفَهم، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويتطلّعون إلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين والآخر ليتأكدوا من بقاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في مضجعه، فيظنون أنَّ النائمَ فى الفراش هو النبيّ (صلى الله عليه وآله).
وهنا أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يخرج من بيته.
فمن جانب يحاصر الأعداءُ بيته (صلى الله عليه وآله) من كل جانب، ويراقبون كلّ شيء، ومن جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى وإرادته القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من أيدي تلك الزمرة المنحطة، فقرأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) سورة (يس) لمناسبة مطلعها لظروفه حتّى بلغ إلى قوله تعالى: «فهم لا يبصرون»[1] وخرج من باب البيت دون أن يشعر به رصدُ قريش المكلّفون بقتله، وذهب إلى المكان الّذي كان من المقرر أن يختبئ فيه على النحو الّذي سيأتي تفصيله.
وأما كيف استطاع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أن يخترق الحصار البشريَ المشدَّد الّذي ضُرِبَ على بيته، ويتجاوز رصدَ قريش من غير أن يشعروا به فذلك غير معلوم جيداً.

إلاّ أنه يستفاد من رواية نقلها المفسرُ الشيعيُ المعروفُ المرحومُ عليُ بن إبراهيم في تفسيره: قول اللّه تعالى: «وَإذْ يَمْكُرُ بِك الذين كَفَرُوا» أن رجال قريش كانوا نياماً ينتظرون الفجر عند خروج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، ولم يكونوا يتصوّرون أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قد عرف بتدبيرهم ومؤامرتهم. ولكن يصرّح غيره من المؤرّخين وكُتّاب السيرة[2] بأن المحاصرين لمنزل النبيّ (صلى الله عليه وآله) كانوا يقظين حتّى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأن النبيّ (صلى الله عليه وآله) خرج من البيت عن طريق الإعجاز والكرامة من دون أن يروه ويحسوا به.
إن إمكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس موضع شك، ولكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟؟
إن دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة تجعل هذه المسألة أمراً قطعياً وهي أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان عارفاً بمؤامرة القوم قبل محاصرة بيته، وكان قد دبّر ورسم لنجاته خطةً طبيعيةً عاديةً، ولم يكن في الأمر أي اعجاز.
لقد كان يريد (صلى الله عليه وآله) بإضجاع علي عليه‌ السلام في فراشه أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية والقنوات الطبيعية من غير الاستعانة بالإعجاز والكرامة.
وعلى هذا كان في مقدور النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يتحسب لمسألة المحاصرة والطوق الّذي كان سيُضرَب على بيته من أوائل الليل، وذلك بمغادرة بيته قبل المحاصرة وقبل الغروب.
ولكن يمكن أن يكون لتوقّف النبيّ (صلى الله عليه وآله) في البيت حتّى ساعة المحاصرة علة لا نعرفها الآن.
من هنا يكون ادّعاء هذا الموضوع (وهو خروج النبيّ (صلى الله عليه وآله) من البيت في الليل) غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) غادر منزله قبل فرض الحصار عليه، وقبل غروب الشمس[3].
ـــــ 
________________________________________
[1] يس : 9.
[2] الطبقات الكبرى : ج 1، ص 228، تاريخ الطبري : ج 2، ص 100.
[3] السيرة الحلبية: ج 2 ص 29.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد