من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

مَن دفن الإمام الحسين (ع) (1)

المشهور بين مؤرِّخي السنَّة أنَّ مَن دفن الحسين (ع) والشهداء الذين قُتلوا معه هم أهل الغاضريَّة من بني أسد، فقد ذكروا أنَّ عمر بن سعد جمع قتلى المعسكر الأموي وصلّى عليهم ثم دفنهم وترك الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء دون تجهيز، ثم إنَّه رحل عن أرض كربلاء في زوال يوم الحادي عشر من شهر محرم مصطحباً معه عائلة الحسين (ع) على هيئة الأسرى، وحينئذٍ خرج أهلُ الغاضرية من بني أسد وقاموا بتجهيز الشهداء ودفنهم بعد الصلاة عليهم.

وقد تبنَّى هذا القول عددٌ من العلماء ومؤرِّخي الشيعة مثل الشيخ المفيد والسيد ابن طاووس وابن شهراشوب. وفي مقابل هذا القول ثمة قولٌ آخر لا يبعد أنَّه الأقرب للواقع على أنَّه غير منافٍ للقول الأول، وهو أنَّ الذي تصدَّى لتجهيز جسد الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء هو الإمامُ السجَّاد (ع) وأعانَه على ذلك أهلُ الغاضرية من بني أسد.

ويُمكن الاستدلال على ذلك بالروايات التي أفادت أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمامٌ مثله، وهي روايات متعدِّدة بل ومستفيضة بل لا يُجازف من يدّعي القطع بصدورها في الجملة، نظراً لكثرتها واختلاف طرقِها واشتمالها على ما هو معتبرٌ سنداً.

 

فمِن هذه الروايات ما رواه الشيخُ الكليني في الكافي بسندٍ معتبر إلى أحمد بن عمر الحلال أو غيره عن الرضا (ع) قال: قلتُ له: إنَّهم يُحاجّونا يقولون: إنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام. قال: فقال (ع): فما يدريُهم من غسَّله، فما قلتَ لهم؟ فقلتُ: جُعلت فداك قلتُ لهم: إنْ قال إنَّه غسَّله تحت عرش ربّي فقد صدق وإنْ قال: غسَّله في تخوم الأرض فقد صدق قال (ع): لا هكذا فقلت: فما أقول لهم؟ قال: قل لهم: إنِّي غسلتُه، فقلتُ: أقول لهم إنّك غسّلته؟ فقال: نعم".

مفاد هذه الرواية الشريفة هو أنَّ -رجالاً والظاهر أنّهم من الواقفة- كانوا يحتجُّون على دعواهم بعدم إمامة الإمام الرضا (ع) بأنَّه لم يكن قد تصدَّى لتغسيل الإمام موسى بن جعفر (ع) نظراً لكونه في المدينة والإمام الكاظم (ع) قد استُشهد في بغداد، ولأنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام، فعدمُ تغسيل الإمام الرضا (ع) للإمام موسى بن جعفر (ع) يسلبُه بزعمِهم واحداً من أمارات الإمامة.

ولأنّ الراوي المتلقِّي للاحتجاج مؤمنٌ بقضيَّة أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام لذلك التمس جواباً نظريَّاً، وحين راجع الإمام الرضا (ع) بعد ذلك أقرَّه على ما يُؤمن به، وأفاد أنّه (ع) هو من تصدَّى لتغسيل الإمام موسى بن جعفر (ع)، ولو كانت القضيَّة مورد الاحتجاج باطلة لكان على الإمام (ع) بيان ذلك كيف ولحن حديثِه (ع) صريحٌ في تقرير هذه القضية، وليس لمتلقِّي الخطاب من الإمام (ع) أنْ يُنكر عليه الذهاب إلى بغداد وهو في المدينة يوم استشهاد الإمام الكاظم (ع) بعد التسليم بصدقِه وإمكانيَّة حصول ذلك بنحو الإعجاز.

 

وعليه فتقريبُ الاستدلال بهذه الرواية هو أنَّها ظاهرةٌ في مركوزيَّة هذه القضيَّة عند الشيعة وإقرار الإمام (ع) لهذا الارتكاز. ومنها: ما رواه الكليني بسندٍ معتبر عن المفضَّل بن عمر عن أبي عبد الله (ع) قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع) من غسَّل فاطمة؟ قال: ذاك أميرُ المؤمنين (ع) وكأنِّي استعظمتُ ذلك من قولِه فقال: كأنَّك ضقت بما أخبرتُك به؟ فقلتُ: قد كان ذلك جُعِلتُ فداك، فقال: لا تضيقنَّ فإنّها صدِّيقة ولم يكن يُغسِّلها إلا صدِّيق، أما علمتَ أنَّ مريم لم يُغسِّلها إلا عيسى".

ومنها: ما رُوي مسنداً في إثبات الوصية وغيره عن أبي بصير قال: قال الإمام موسى بن جعفر (ع): فيما أوصاني به أبي قال: يا بنيَّ إذا أنا متُّ فلا يُغسِّلني أحدٌ غيرك فإنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام.

ومنها: ما رواه الشيخُ الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) بسنده عن هرثمة بن أعين في حديثٍ طويل كان بينه وبين الإمام الرضا (ع) قُبيل استشهاده ورد فيه: "فإذا أنا متُّ سيقول -يعني المأمون- أنا أُغسِّلُه بيدي، فإذا قال ذلك فقل له عنِّي بينك وبينه أنَّه قال لي: لا تتعرَّض لغسلي ولا لتكفيني ولا لدفني فإنَّك إنْ فعلت ذلك عاجلك من العذاب ما أُخّر عنك وحلَّ بك أليمُ ما تحذر فإنَّه سينتهي .. إلى أن قال: فإنَّه سيُشرف عليك ويقول: يا هرثمة أليس زعمتم أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام مثله، فمَن يُغسِّل أبا الحسن عليَّ بن موسى وابنه محمد بالمدينة من بلاد الحجاز ونحن بطوس؟

فإذا قال لك ذلك فأجبه وقل له: إنّا نقول: إنَّ الإمام لا يجب أن ُيغسِّله إلا إمام فإنْ تعدَّى متعدٍ وغسَّل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدِّي غاسله ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده بأن غُلِب على غسل أبيه، ولو تُرك أبو الحسن عليُّ بن موسى بالمدينة لغسَّله ابنُه محمد ظاهراً مكشوفاً ولا يُغسِّله الآن إلا هو من حيثُ يخفى".

 

وثمَّة رواياتٌ أخرى أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة.

وتقريبُ الاستدلال بالروايات هو أنَّ مفادها امتناع وقوع تغسيل الإمام المطلوب شرعاً من قبل غير الإمام، وكذلك امتناع تغسيل الصدِّيق من قبل غير الصدِّيق.

وذلك لا يعني أنَّه لا يتَّفق تصدِّي غير الإمام لتغسيل الإمام إلا أنَّ ذلك يكون في الظاهر ويكون من المحتَّم تصدِّي الإمام في الواقع لتغسيل الإمام الذي سبقه، فالرواياتُ ليست متصدِّية لبيان الوظيفة الشرعية فحسب وأنَّ على الإمام تكليفاً شرعيَّاً هو تغسيل الإمام الذي سبقه بل هي متصدِّية للحكاية عن قضية واقعية حتميَّة الوقوع، فإنَّ ذلك هو المستفاد من رواية هرثمة صريحاً وممَّا هو مركوز في فهم الشيعة كما هو ظاهر معتبرة أحمد بن عمر الحلال حيثُ إنَّ المنكرين لإمامة الإمام الرضا (ع) احتجُّوا على نفي إمامته بعدم تصدِّيه لتغسيل الإمام موسى بن جعفر (ع) والراوي لم يُنكر عليهم الاحتجاج بأصل القضيَّة رغم أنَّه كان من الأيسر عليه ذلك لو كانت باطلةً وإنَّما أنكر عليهم دعواهم الجزم بعدم تصَدِّي الإمام لتغسيل والده ثم إنَّ الإمام الرضا (ع) أقرَّه على إيمانه بلزوم وقوع تغسيل الإمام من قبل الإمام الذي بعده وعالج الشبهة بواسطة إخباره أنَّه هو مَن تصدَّى لتغسيل الإمام موسى بن جعفر (ع) واقعاً، فلو كان تغسيل الإمام من قِبل الإمام الذي يليه مجرَّد وظيفة شرعيَّة لما ساغ الاحتجاج بذلك على عدم الإمامة لأنَّ من الواضح أنَّ الوظائف الشرعية إنَّما تكون مُلزمة في ظرف القدرة ولا يُتصور غفلة المنكرين عن ذلك.

وأما معتبرة المفضَّل ورواية أبي بصير فهما غير منافيتين لما استظهرناه فإنَّ قول الإمام (ع): "ولم يكن يُغسِّلها إلا صدِّيق" يناسب جداً الحكاية عن أمرٍ واقعي وأنَّه لم يكن ليقع تغسيل فاطمة الصِّديقة (ع) إلا من قبل صدِّيق وأنَّ ذلك مقامٌ منحَه اللهُ تعالى للصدِّيق المتوفَّى بأن يُهيئ له صدِّيقاً يقوم بشأن تغسيله، لذلك هيئ للسيِّدة مريم صِدِّيقاً يقوم بتغسيلها وهو المسيح عيسى (ع).

 

فإخبار الإمام الصادق (ع) للمفضَّل عن تغسيل المسيح عيسى لإمه مشعرٌ إذا لم يكن ظاهراً في أنَّ الإمام(ع) أراد أنْ يُعبِّر عن أنَّ ثمة سنَّة إلهيَّة أجراها الله تعالى مع الصدِّيقين، ويُؤكِّد ذلك ما ورد في رواية أبي معمَّر عن الإمام الرضا (ع) قال: سألتُ الرضا (ع) عن الإمام يُغسِّله الإمام؟ قال (ع) سنة موسى بن عمران (ع).

وأما رواية أبي بصير عن الإمام الصادق (ع) فهي أيضاً مناسبة لما استظهرناه وأنَّ الإمام(ع) كان في مقام الحكاية عن قضية واقعيَّة وليس في مقام بيان الوظيفة الشرعيَّة فحسب، إذْ لو كانت وظيفة شرعيَّة لما كان لأبي بصير شأنٌ بها حتى يُخبره الإمام (ع) بها ابتداءً.

ثمَّ إنَّه قد يُقال إنَّ أقصى ما أفادته الروايات المذكورة هو لزوم وقوع تغسيل الإمام من قِبَل الإمام الذي يليه والإمام الحسين (ع) كان شهيداً لا يُغسَّل بل يُدفن كما هو في ثيابه، نعم لو كان في الروايات ما يدلُّ على لزوم وقوع الصلاة على الإمام من قِبَل إمامٍ مثله لكانت صالحة للاستدلال بها على حضور الإمام السجَّاد (ع) لتجهيز أبيه (ع) لكنَّها خالية عن الدلالة على ذلك.

والجواب عن هذا الإشكال:

هو أنَّه من غير المحتمل وجود خصوصيَّة في التغسيل تقتضي لزوم وقوعه من الإمام دون سائر مراسم التجهيز فإنَّ الظاهر عرفاً من الروايات المذكورة أنَّ ذلك كان وِساماً للإمام المتوفَّى ومنصباً للإمام الذي يليه ولا نحتمل خصوصيَّة للتغسيل دون الصلاة مثلاً خصوصاً وأنَّ الصلاة أجلُّ شأناً في مرتكز المتشرَّعة من التغسيل.

لذلك يتقدَّم لإمامتها -عندما يكون المتوفَّى وجيهاً- الأُمراء وكبار العلماء، وعليه فالمستظهَر عرفاً من الروايات المذكورة هو أنَّه لا يلي أمر الإمام إلا إمامٌ مثله وأنَّ القاعدة لا تختصُّ بالتغسيل فحسب.

 

ويمكن تأكيد هذا الاستظهار ببعض من القرائن:

القرينة الأولى: دعوى الإجماع على أنَّه لا يلي أمر الإمام إلا إمام مثله رغم أنَّ أكثر الروايات لم تتحدَّث إلا عن التغسيل، وذلك يُعبِّر عن أنَّ المتشرعة فهموا من الروايات المذكورة المعنى الذي استظهرناه.

القرينة الثانية: تصريح بعض الروايات بذلك.

منها: رواية الكشي حيث ورد فيها أنَّ عليَّ بن أبي حمزة البطائني قال للإمام الرضا (ع) إنَّا روينا عن آبائك أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله فقال له أبو الحسن الرضا (ع) فأخبرني عن الحسين بن علي (ع) كان إماماً أو كان غير إمام؟ قال: كان إماماً، قال (ع): فمن وليَ أمره؟ قال: عليُّ بن الحسين (ع). قال كان محبوساً بالكوفة في يد عبيد الله بن زياد. قال: خرج وهم لا يعلمون حتى وَليَ أمر أبيه ثمَّ انصرف. فقال أبو الحسن (ع): إنَّ هذا أمكن عليَّ بن الحسين (ع) أنْ يأتي إلى كربلاء فيلي أمر أبيه فهو يُمكِّن صاحب هذا الأمر أنْ يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثمَّ ينصرف وليس في حبسٍ ولا أسر.

فالرواية المذكورة صريحةٌ في أنَّ التغسيل ليس وحده الذي يجب وقوعه من الإمام وإلا كان أيسر على البطائني أنْ يُجيب الإمام الرضا (ع) بأنَّ الإمام الحسين (ع) لم يكن قد غُسِّل فلا يجب حضور السجاد (ع) في تجهيزه.

فالرواية وإنْ كان في سندها إشكال إلا أنَّها تصلح قرينةً وشاهداً على ما استظهرناه، وسنقف عندها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

 

ومنها: ما رواه الكليني في روضة الكافي بسنده عن عبد الله بن القاسم البطل عن أبي عبد الله (ع) في قوله تعالى: ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ ورد في ذيلها (ولا يلي الوصي إلا الوصي).

واشتملت هذه الرواية على أنَّ الذي يليه الإمام من الإمام ليس هو التغسيل فحسب بل هو مضافاً إلى التكفين والتحنيط والإيداع في اللحد، وهو يؤكِّد ما استظهرناه من الروايات موردَ الاستدلال.

ومنها: ما رواه ابن شهراشوب في المناقب قال: وقد روي أنَّا أهل بيت النبوة والرسالة والإمامة .. وإنَّ الإمام لا يتولَّى ولادته وتغميضه وغسله ودفنه إلا إمام مثله".

وبما ذكرناه نخلصُ إلى هذه النتيجة وهي إمكانيَّة التمسُّك بإطلاق ما دلَّ على أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام مثله لإثبات أنَّ من تولَّى شأنَ تجهيز الإمام الحسين (ع) ودفنِه هو الإمام السجاد (ع).

وثمة دليلٌ آخر يُمكن التمسُّك به لإثبات هذه الدعوى، وهو مكوَّن من عدة أمور يحصل بمجموعها الوثوق بأنَّ الذي كان قد تصدَّى لتجهيز الإمام الحسين (ع) ودفنه هو نجلُه الإمام السجاد (ع).

الأمر الأول: ما ورد من رواياتٍ خاصَّة تنصُّ على تصدِّي الإمام السجاد (ع) لتجهيز والده الحسين الشهيد (ع)، وما وقفنا عليه في ذلك روايتان.

 

الأولى: رواية الكشي والتي ذكرناها سابقاً وتقريب دلالتها على الدعوى هو أنَّ الإمام الرضا (ع) أقرَّ البطائني على دعواه وأنَّ الذي وليَ أمر الإمام الحسين (ع) هو السجاد (ع)، ولو كان الواقع على خلاف ما ادَّعاه البطائني لكان المناسب تفنيد الإمام لدعواه.

هذا ما يتَّصل بالدلالة -ولنا عودة للرواية- وأما ما يتصل بالسند فهي ضعيفة السند بالإرسال واشتمالها على أحمد بن سليمان وإسماعيل بن سهل إلا أنَّ ذلك لا يمنع من اعتبارها شاهداً على الدعوى.

الثانية: ما رواه العلامة المجلسي في البحار عن بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد وأحمد بن إسحاق عن القاسم بن يحيى عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) قال: لما قُبض رسول الله (ص) هبط جبرئيلُ ومعه الملائكة والروح الذين يهبطون ليلة القدر قال: ففُتح لأمير المؤمنين بصرُه فرآهم في منتهى السماوات إلى الأرض يُغسِّلون النبيَّ معه ويُصلُّون معه عليه ويحفرون له، واللهِ ما حفر له غيرُهم حتى إذا وُضع في قبره نزلوا مع من نزل فوضعوه، فتكلَّم، وفُتح لأمير المؤمنين على سمعِه فسمعه يُوصيهم به فبكى، وسمعهم يقولون: لا نألوه جهداً وإنَّما هو صاحبنا بعدك إلا أنَّه ليس يُعايننا ببصره بعد مرَّتنا هذه، حتى إذا مات أميرُ المؤمنين (ع) رأى الحسنُ والحسينُ مثلَ ذلك الذي رأى ورأيا النبيَّ (ص) أيضاً يُعيين الملائكة مثل الذي صنعوا بالنبيِّ حتى إذا مات الحسنُ رأى منه الحسينُ مثل ذلك ورأى النبيَّ (ص) وعليَّاً (ع) يُعيينان الملائكة، حتى إذا مات الحسينُ رأى عليُّ بن الحسين منه مثل ذلك ورأى النبيَّ وعليَّاً والحسن يعينون الملائكة، حتى إذا مات عليُّ بن الحسين (ع) رأى محمَّدُ بن عليٍّ مثل ذلك ورأى النبيَّ وعليَّاً والحسن والحسين يُعينون الملائكة، حتى إذا مات محمد بن عليٍّ رأى جعفرٌ مثل ذلك ورأى النبيَّ وعليَّاً والحسنَ والحسين وعليَّ بن الحسين يُعينون الملائكة حتى إذا مات جعفر رأى موسى منه مثل ذلك، هكذا يجري إلى آخرنا.

هذه الرواية كما تلاحظون صريحة في تصدِّي الإمام عليِّ بن الحسين (ع) لتجهيز والده الشهيد الحسين بن علي (ع) إلا أنَّها ضعيفة السند، فلتكن مؤيِّداً آخر على الدعوى.

 

الأمر الثالث: ما ورد من أنَّ الإمام الحسين (ع) دُفن في قبرٍ مستقلٍّ ودُفن ابنُه عليُّ بن الحسين الأكبر (ع) ممَّا يلي رجليه، ودُفن الشهداء من بني هاشم في قبرٍ واحد ودُفن الشهداء من غير بني هاشم في قبورٍ جماعيَّة أو في قبرٍ واحد ممَّا يلي رجلي الحسين (ع) وأمَّا العباس بن علي (ع) فدُفن في الموضع الذي قُتل فيه على طريق الغاضرية.

وهذا التفصيل والذي هو موردٌ لتسالم العلماء ومؤرِّخي الشيعة لا يتناسبُ مع دعوى تصدِّي أهلِ الغاضرية من بني أسد بنحو الاستقلال لتجهيز الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء خصوصاً مع الالتفات إلى أنَّ رؤوس الشهداء قد فُصلت عن أجسادهم، فمن أين لبني أسد العلم بهويَّات الشهداء، وهم من أهل البادية ولم يشهدوا المعركة، وقد لا يكون منهم من تشرَّف برؤية الإمام الحسين (ع) فضلاً عن بقية الشهداء (ع).

فحينئذٍ كيف يُقال إنَّهم أفردوا للحسين (ع) قبراً ودُفن الأكبر قريباً منه ممَّا يلي رجليه، ولو تجاوزنا ذلك فكيف نتجاوز عن سبب دفنهم للعباس (ع) وحده، وهم لا يعرفونه قطعاً وقد كان أيسر عليهم أنْ يضعوه مع سائر الشهداء في القبر الجماعي الذي حفروه لهم، فليس ثمة ما يقتضي دفنه مستقلاً بعد افتراض جهلهم بهويَّته، فلم يكن من البُعد بحيث يكون دفنُه مستقلاً أيسر عليهم من حمله ووضعه مع سائر الشهداء.

إنَّ كلَّ ذلك يُعبِّر عن أنَّ الدفن بالكيفيَّة المذكورة لم يكن اتفاقيَّاً وجزافيَّاً بل كان عن تخطيط لا يناسب واقع أهل الغاضريَّة من بني أسد، وذلك ما يُؤكِّد ما ادَّعيناه من أنَّ الإمام السجاد (ع) هو الذي كان قد باشر الإشراف على تجهيز الإمام الحسين (ع).

 

ثمَّ إنَّ هنا رواية ينقلها السيِّد ابن طاووس في كتابه مصباح الزائر ورد فيها أنَّ جابر بن عبد الله الأنصاري جاء لزيارة قبر الإمام الحسين (ع) يوم العشرين من صفر بصحبة (عطا) عطية العوفي وبعد أن اغتسل وتطيَّب وقف على قبر الحسين (ع) وكبَّر ثلاثاً ثمَّ خرَّ مغشياً عليه، ولـمَّا أفاق سلَّم على الحسين (ع) ولـمَّا انتهى من السلام عليه وصلَّى ركعات جاء إلى قبر عليِّ بن الحسين (ع) فقال: "السلام عليك يا مولاي وابن مولاي لعن الله قاتلك لعن الله ظالمك أتقرب إلى الله بمحبتك .." ثمَّ قبَّله وصلَّى ركعتين والتفت إلى قبور الشهداء وقال: "السلام على الأرواح المنيخة بقبر أبي عبد الله، السلام عليكم يا شيعة الله وشيعة رسوله ..".

ثمَّ جاء إلى قبر العباس ابن أمير المؤمنين (ع) فوقف عليه وقال: "السلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا عباس بن علي، السلام عليك يا بن أمير المؤمنين ..".

هذه الرواية صريحةٌ في أنَّ قبر الحسين (ع) وقبر عليِّ بن الحسين الأكبر (ع) والعباس بن علي (ع) كانت مشخَّصة عند جابر بن عبد الله الأنصاري رغم أنَّ الزيارة كانت قبل الالتقاء بالركب الحسيني العائد من الشام -هذا لو تمَّ الالتقاء بهم- فمن أين لجابرٍ العلم بموضع قبر الحسين (ع) والأكبر والعباس (ع)؟

 

إنَّ هنا احتمالين لا ثالث لهما، فإمَّا أن تكون القبور المذكورة قد كُتِب عليها أسماء أصحابها، وإمَّا أنْ يكون تشخيصها قد تمَّ بواسطة مَن حضر مراسيم الدفن، وعلى كلا الاحتمالين يتعيَّن حضور الإمام السَّجاد (ع) لمراسيم الدَّفن، وذلك لأنَّه من غير المتاح لأهل الغاضرية القدرة على تشخيص هويَّات الشهداء بعد أنْ لم يكونوا عارفين بمشخَّصاتهم قبل القتل ولم يكونوا ممَّن شهد المعركة، ولأنَّ الشهداء قد فُصِلت عنهم رؤوسهم، وإذا كان من الممكن تشخيص جسد الحسين (ع) فإنَّ تشخيص جسد العباس وكذلك عليٍّ الأكبر مستبعدٌ جداً نظراً لما ذكرناه.

وعليه فالمتعيَّن هو أنَّ منشأ تشخيصهم لمواضع القبور كان بسبب إرشاد الإمام السجاد (ع) وتعريفه لهم بهويَّات الشهداء حين كان يُشرف على تجهيزهم ودفنهم.

الأمر الرابع: ما ورد في الروايات من أنَّ الإمام الرضا (ع) كان قد ولي أمر الإمام موسى بن جعفر (ع) فقد روى الشيخ الصدوق وغيره أنَّ الإمام الرضا حضر إلى بغداد وغسَّل والده وكفَّنه ودفنه، وقد نقلنا فيما سبق ما رواه الكليني بسندٍ معتبر عن أحمد بن عمر الخلال وما رواه عن أبي معمر، فرغم أنَّ الإمام الرضا (ع) كان حين استشهاد والده في المدينة إلا أنَّ الروايات أكَّدت حضوره إلى بغداد لتجهيز والده (ع).

 

وورد في الروايات أنَّ الإمام الجواد (ع) كان قد وليَ أمر أبيه الرضا (ع) كما في رواية هرثمة المتقدِّمة ومعتبرة أبي الصلت الهروي وقد جاء فيها: "فبينا أنا كذلك إذ دخل عليَّ شابٌّ حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا (ع)، فبادرتُ إليه وقلتُ له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق، فقلت له: ومَن أنت؟ فقال لي: أنا حجَّة الله عليك يا أبا الصلت أنا محمد بن عليٍّ ثم مضى نحو أبيه.. ومضى الرضا (ع) فقال أبو جعفر (ع) يا أبا الصلت قم ائتني بالمغتسل والماء من الخزانة.. فقال لي تنحَّ يا أبا الصلت فإنَّ لي مَن يُعينني غيرُك فغسَّله ثم قال لي: ادخل الخزانة فاخرج السفط الذي فيه كفنُه وحنوطه.. فحملتُه إليه فكفَّنه وصلَّى عليه ..".

فرغم انَّ الإمام الجواد (ع) حين استشهاد والده كان في المدينة وكان الإمام الرضا (ع) في خراسان إلا أنَّ الروايات أكَّدت حضوره وتولِّيه شأنَ تجهيز والده (ع). وورد أيضا في الروايات المأثورة عن أهل البيت (ع) أنَّ الإمام الصادق (ع) أوصى ابنه الإمام الكاظم (ع) بأنْ يليَ شأن تغسيله كما في رواية أبي بصير وأفاد أنَّ الإمام لا يُغسِّلُه إلا إمام، ولهذا تولَّى الإمامُ الكاظم (ع) شأن تجهيز والده الإمام الصادق (ع) كما أفادت ذلك الروايات، فرغم أنْ الإمام الكاظم (ع) لم يكن الولد الأكبر للإمام الصادق (ع) إلا أنَّه ونظراً لكونه الإمام بعد أبيه تصدَّى هو دون غيره لتولِّي شأن تجهيزه.

وهكذا الحال بالنسبة للإمام المهدي (عج) فرغم ظروف الغيبة تصدَّى هو للصلاة على أبيه كما أفادت ذلك بعض الروايات والتي جاء فيها: "فلما صرنا في الدار إذ أنا بالحسن بن عليٍّ (ع) على نعشه مكفَّناً فتقدَّم جعفر بن عليٍّ ليصلِّي على أخيه، فلمَّا همَّ بالتكبير خرج صبيٌّ بوجهه سمرة، شعره قَطَط بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن عليٍّ وقال: تأخَّر يا عم فأنا أحقُّ بالصلاة على أبي، فتأخَّر جعفر وقد أربدَّ وجهُه واصفرَّ فتقدَّم الصبيُّ وصلَّى على أبيه ..".

 

وقد نقلنا لك قريباً معتبرة عبد الرحمن بن سالم والتي أفادت أنَّ الإمام أمير المؤمنين غسَّل فاطمة (ع) وذلك لأنَّها صدِّيقة ولم يكن يُغسِّلها إلا صدِّيق وورد ذلك في رواياتٍ أخرى أيضاً، فرغم أنَّ مذاق العرف يستوحش من تصدِّي الرجل لتغسيل زوجته خصوصاً مع وجود المماثل إلا أنَّ الإرادة الإلهيَّة الـمُلزمة قد اقتضت ذلك نظراً لكون فاطمة صدِّيقة، والذي هو أكثر استيحاشاً من ذلك أن يتصدى الابن لتغسيل والدته إلا أنَّه ورغم ذلك تصدَّى السيدُ المسيح لتغسيل والدته السيدة مريم كما أفاد الإمامُ الصادق (ع) في معتبرة عبد الرحمن بن سالم مبرِّراً ذلك بأنَّه لم يكن لغير الصدِّيق أن يتصدَّى لتغسيل الصدِّيق.

وبهذا الذي ذكرناه هنا تتأكد صوابيَّة ما ادَّعيناه من تصدِّي الإمام السجاد (ع) لتولِّي شأن تجهيز والده الحسين الشهيد (ع) إذ أنَّ ما تمَّ بيانُه يُعبِّر عن أنَّ ثمة سنَّةً إلهيَّة أجراها المولى جلَّ وعلا في أوليائه المعصومين (ع) فليس اتَّفاقاً أن يُناط هذا المنصب بمَن سبق الإمام السجاد (ع) ومن لحقه من المعصومين (ع) ولا نتعقل مانعاً يحول دون جريان هذه السنَّة الإلهيَّة في سيد الشهداء، فلو كانت العوائق الظاهريَّة مانعاً لمنعت دون وصول الإمام الرضا (ع) إلى بغداد ولمنعت دون حضور الإمام الجواد (ع) إلى خراسان كيف وقد تواترت الروايات تحكي كراماتٍ أظهرها الله جلَّ وعلا على يد وليِّه ونجيبه زين العابدين (ع).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد