من التاريخ

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله (2)

الشيخ رسول جعفريان

 

رجوع الأسرى إلى المدينة أو إلى كربلاء

لقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الشيخ الطوسيّ يعتبر أنّ يوم العشرين من صفر أو الأربعين، هو اليوم الذي رجع فيه الأسرى من الشام إلى المدينة.

ولكن هناك نقل آخر صرّح أنّ الأربعين هو يوم رجوع الأسرى من الشام إلى كربلاء. هنا يجب القول- بحسب المصادر القديمة- إنّ القول الأوّل أقوى من القول الثاني.

يقول العلّامة المجلسيّ بعد نقل كلا الرأيين: إنّ احتمال صحّة أيٍّ منهما مستبعد من ناحية الزمان. وقد صرّح بهذا التردّد أيضاً في كتاب الأدعية الذي ألّفه باسم (زاد المعاد).

مع كلّ ذلك، فإنّنا نجد في المتون القديمة نسبيّاً، مثل كتاب (اللهوف) وكتاب (مثير الأحزان) أنّ الأربعين له علاقة بموضوع رجوع الأسرى من الشام إلى كربلاء، حيث طلبوا من دليل القافلة أن يعرّج بهم على كربلاء.

لكن يجب التنبّه إلى أنّ هذين الكتابين- وإن كانا يحتويان على مطالب مهمّة ومفيدة من بعض الجهات- ينقلان أيضاً بعض الأخبار الضعيفة والقصصيّة التي تحتاج للتعرّف عليها وتحقيقها، إلى الرجوع إلى المصادر والمراجع القديمة.

وهنا يجب إضافة نقطة وهي أنّ المصادر التي صنفت بعد كتاب (اللهوف)- وقد أخذت منه هذا الخبر- لا ينبغي عدّها مصادر مستقلّة ومسندة، مثل كتاب (حبيب السّير) الذي نقل خبر رجوع الأسرى إلى كربلاء من تلك المصادر؛ ولذا لا يمكن جعل ما ذكره مستنداً للإستدلال والاحتجاج به.

من المناسب هنا، أن نذكر هذين النقلين حول وصول الأسرى إلى دمشق. الأوّل: ما نقله أبو ريحان البيرونيّ، فقال: (في اليوم الأوّل من شهر صفر، دخل رأس الحسين عليه السلام مدينة دمشق، فوضعه يزيد لعنه الله بين يديه ونقر ثناياه بقضيبٍ كان في يده وهويقول:

لســت مـن خنــــــدف إن لم أنتقــــم         

مـــــن بنــي أحمـــد، مـــا كــان فـــعـــل        

ليــت أشيـاخــــي بــبــــــدر شهـــــــدوا          

جــــزع الخــــزرج مــــن وقـــع الأســــل  

فــأهــلّــــــــــــوا واســــتهـــلّــــوا فرحــــاً               

ثـمّ قـــــالـــــوا: يـــا يــزيـــــد لا تــــشــــل          

قــــد قتلــــنا القــــرم مـن أشياخهم             

وعــــــــدلـــنـــــاه بــبـــــــدر، فاعـتــــــــدل          

الثاني: كلام عماد الدّين الطبريّ (المتوفَّى حوالي 700) في كتاب (كامل البهائيّ) حيث اعتبر أنّ وصول الأسرى إلى دمشق هو في السادس عشر من شهر ربيع الأوّل (يعني بعد عاشوارء بـ (66) يوماً) وهذا القول عنده هو الأنسب والأقرب إلى الواقع.

 

الميرزا حسين النوريّ والأربعون:

العلّامة الميرزا حسين النوريّ، مصنّف كتاب (مستدرك الوسائل) وهو يعتبر من علماء الشيعة البارزين، ينتقد ويفنّد في كتابه (اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر) بعض روايات وقصص المجالس الحسينيّة التي أصبحت مشهورة ومتداولة بين عموم الشيعة مع مرور الأيّام، وهي- حسب رأيه- ليست صحيحة.

والظاهر أنّ الميرزا النوريّ هو الشخص الأوّل الذي قام في هذا القرن الأخير بنقد الرواية التي نحن بصددها، وقد طرح براهين متعدّدة لإثبات عدم صحّتها.

وقد نقل الميرزا النوريّ عبارة السيّد ابن طاووس في اللهوف حيث يقول: (بأنّ الأسرى حين رجوعهم من الشام طلبوا من دليلهم أن يأخذهم إلى كربلاء), ثمّ أخذ بنقد هذه العبارة والمسألة بهذا النحو: إنّ السيّد ابن طاووس نقل في اللهوف خبر رجوع الأسرى إلى كربلاء في الأربعين إلّا أنّه لم يذكر هناك مصدر ذلك الخبر، ويقال بأنّ السيّد في ذلك الكتاب نقل الروايات المشهورة بين الشيعة والتي كانت متداولة في مجالس العزاء الحسينيّ.

ولكنّ السيّد ابن طاووس نفسه في كتابه (إقبال الأعمال) عندما يشير إلى كلام الشيخ الطوسيّ في المصباح حيث يقول: (إنّ الأسرى تحرّكوا من الشام إلى المدينة في يوم الأربعين، وقد نقل أيضاً الشيخ في غير المصباح أنّ رجوعهم في الأربعين كان إلى كربلاء وليس إلى المدينة) هناك يبدي السيّد تردّده في كلّ من القولين.

وهذا التردّد باعتبار أنّ ابن زياد قد حبس الأسرى مدّة من الزمان في الكوفة، ثمّ لو أضفنا هذه المدّة إلى الوقت الذي يحتاج إليه السفر من الكوفة إلى الشام ثمّ الإقامة شهراً كاملا ًهناك ومن بعده المدّة اللازمة للرجوع، كلّ هذا يجعل وصولهم في الأربعين إلى المدينة أو إلى كربلاء أمراً مستبعداً. وممّا يقوله أيضاً ابن طاووس: من الممكن تحصيل الإذن من يزيد للرجوع إلى كربلاء، ولكن لا يمكن أن يكون ذلك في الأربعين. وقد ورد في خبرٍ حول رجوع الأسرى إلى كربلاء، بأنّ ذلك الوصول كان في نفس زمان وصول جابر إلى كربلاء وقد حصل لقاء بين جابر وبين الأسرى.

هنا أيضاً يتوقّف السيّد ابن طاووس ويشكّ حتّى في وصول جابر إلى كربلاء في الأربعين.

هذا الاختلاف في كلام ابن طاووس بين كتاب اللهوف وكتاب الإقبال قد يكون سببه أنّ الأوّل كتبه في أيّام الشباب، وأمّا الثاني فقد صنّفه في مرحلة نضوجه الفكريّ. وقد تكون العلّة في ذلك أيضاً: أنّ كتاب اللهوف قد ألّفه لمجالس العزاء في المحافل العامّة، بينما صنّف كتاب الإقبال كأثر علميّ متين للخواصّ.

طبعاً بالنسبة إلينا لا داعي أبداً لقبول تلك الشكوك والتردّدات التي أبداها السيّد حول مجيء جابر إلى كربلاء في يوم الأربعين.

والظاهر أنّ المستند الأقوى الموجود بين أيدينا لإثبات أهميّة الأربعين وعظمتها هو زيارة جابر في الأربعين باعتبار أنّه كان هو الزائر الأوّل.

أمّا القول بأنّ منشأ فضيلة الأربعين هو رجوع الأسرى إلى كربلاء، فهنا يلزم التوجّه إلى هذه النقطة المهمّة، وهي أنّ الشيخ المفيد في كتابه المهمّ في بابه وهو باب سيرة الأئمّة، أي كتاب (الإرشاد)، وفي قسم منه يختصّ بالإمام الحسين عليه السلام لم يذكر أبداً فيه رواية رجوع الأسرى، وأنّهم رجعوا إلى العراق.

وكذلك فعل أبو مخنف الراوي الشيعيّ الكبير، حيث لم يشر أبداً في كتابه عن مقتل الحسين عليه السلا ، إلى شيءٍ من رجوع الأسرى نحو العراق.

وهكذا، فإنّنا لا نجد أيّ أثر ٍلهذا الخبر في المصادر القديمة لتاريخ كربلاء، مثل كتاب (أنساب الأشراف) و(الأخبار الطوال) و(الطبقات الكبرى).

ومن الواضح أنّه لا يوجد حذف متعمّد لذلك الخبر، إذ إنّه لا يوجد أيّ سبب وداعٍ لهذا الحذف والتحريف.

وقد ورد في كتاب (بشارة المصطفى) خبر زيارة جابر، ولكنّه لم يذكر شيئاً عن لقائه بالأسرى.

وكذلك المرحوم الشيخ عبّاس القمّي، وتبعاً لأستاذه النوريّ، فقد اعتبر مسألة مجيء أسرى كربلاء في الأربعين من الشام إلى كربلاء غير صحيحة.

وقد أنكر أيضاً المرحوم محمّد إبراهيم آيتي، خلال أيّامه الأخيرة في كتابه (البحث في تاريخ عاشوراء) رجوع الأسرى إلى كربلاء. وهذا ما كان عليه رأي الشهيد المطهّري الذي تأثّر بالمرحوم آيتي.

ولكن في قبال رأي كلّ هؤلاء العلماء، كان يقف بقوةٍ الشهيد القاضي الطباطبائيّ مخالفاً لهم.

 

الشهيد القاضي الطباطبائيّ والأربعون:

صنّف شهيد المحراب المرحوم الحاج السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ كتاباً مفصّلا ًحول الأربعين باسم (التحقيق حول الأربعين الأوّل لسيّد الشهداء) وقد طبع مؤخّراً بشكل جديد وأنيق.

لقد كان هدف الشهيد من تأليف هذا الكتاب هو نفي استبعاد مجيء الأسرى من الشام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل. وقد طبع هذا الكتاب بمجموع (900) صفحة، ويحتوي على تحقيقات كثيرة في تفاصيل وجزئيّات واقعة كربلاء، وهي مفيدة جدّاً وجذّابة. ولكن الظاهر أنّ المؤلّف الجليل- مع كلّ الجهود التي بذلها- لم يكن موفّقاً كثيراً لإثبات ذلك المطلب الذي نحن بصدده. فهو من أجل الردّ على إشكال استحالة انتقال الأسرى من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ثمّ من الشام إلى كربلاء خلال أربعين يوماً، أورد بالتفصيل سبعة عشر نموذجاً تاريخيّاً من السفرات والرحلات، مع الأزمنة التي احتاجت إليها تلك الرحلات لقطع طريق الذهاب من كربلاء إلى الشام ثمّ طريق الإياب من الشام إلى كربلاء.

وممّا ذكره في ذلك السرد التاريخيّ أنّ المسير من الكوفة إلى الشام وبالعكس كانوا يقطعونه من أسبوع إلى عشرة أو اثني عشر يوماً.

وبناءً على ذلك فمن الممكن أن تقطع مسافة ذلك الطريق خلال أربعين يوماً. ولو صحّ أيضاً قول البيرونيّ، بأنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام قد ورد دمشق في اليوم الأوّل من شهر صفر، فحينها يمكن القول بأنّ الأسرى استطاعوا خلال عشرين يوماً الوصول إلى كربلاء.

وبنحو عامّ يجب القول: لو فرضنا إمكان قطع كلّ ذلك المسير، ومن قبل قافلة تتألّف من نساءٍ وأطفال، خلال مدّة زمنيّة قصيرة، فإنّه يجب التنبّه إلى أنّه في الأصل: هل يوجد عندنا خبر عن ذلك في الكتب التاريخيّة المعتبرة أم لا؟

حسب معلوماتنا، فإنّ نقل هذا الخبر من المصادر التاريخيّة لم يكن قبل القرن السابع للهجرة. هذا بالإضافة إلى أنّ علماء الشيعة الكبار، مثل الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ، ليس فقط لم يشيروا إليه بل صرّحوا أيضاً بما يقابله فقالوا: يوم الأربعين هو اليوم الذي دخل فيه حرم الإمام الحسين عليه السلام إلى المدينة أو هو اليوم الذي خرجوا فيه من الشام نحو المدينة المنوّرة.

ويبقى أن نقول: إنّ الزيارة الأولى للإمام الحسين عليه السلام في الأربعين الأوّل قد تحقّقت بزيارة جابر بن عبد الله الأنصــاريّ، ومن بعد ذلك كان الأئمّة الأطهار عليهم السلام يستفيدون من كلّ فرصة للحثّ على زيارة الإمام الحسين عليه السلام وكانوا يعرّفون شيعتهم أهميّة واستحباب زيارته عليه السلام في يوم الأربعين باعتبار أنّ أوّل زيارة حصلت، هي تلك الزيارة في ذلك اليوم.

وقد وردت تلك الزيارة (زيارة الأربعين) على لســان الإمام جعفـر الصـادق عليه السلام ، والشيعة ملتزمون بقراءة تلك الزيارة بمضامينها العالية في ذلك اليوم.

إنّ أهميّة قراءة زيارة الأربعين وصلت إلى حدّ أنّها اعتبرت من علامات الشيعة، وبمستوى مسألة الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة، وبموازاة الإتيان بصلوات الفرائض والنوافل الـ (51) ركعة في اليوم والليلة، والتي ورد فيها الأحاديث بما لا يعدّ ولا يحصى أنّها من علامات التشيّع.

نقل الشيخ الطوسيّ زيارة الأربعين في كتاب (مصباح المتهجّد) وأيضاً في كتاب (تهذيب الأحكام) عن صفوان بن مهران الجمّال، حيث قال: قال مولاي الصادق عليه السلام: تزور عند ارتفاع النهار وتقول: (السلام على وليّ الله وحبيبه، السلام على خليل الله ونجيبه...).

إنّ هذه الزيارة تشبه بعض الزيارات الأخرى من بعض جهات، ولكن باعتبار أنّها تحتوي على بعض العبارات اللافتة حول الهدف من قيام الإمام الحسين عليه السلام وثورته، فهي تكتسب ميزة وأهميّة خاصّة.

فقد جاء في جزء من هذه الزيارة حول هدف الإمام الحسين عليه السلام من نهضته ما يأتي: (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة... وقد توازر عليه من غرّته الدنيا وباع حظّه بالأرذل الأدنى..).

 

ملاحظتان صغيرتان

الأولى: جاء في بعض روايات كتاب "كامل الزيارات" الواردة في فضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام: (إنّ السماء والأرض والشمس والملائكة بكوا على الإمام الحسين عليه السلام أربعين صباحاً).

الثانية: إنّ ابن طاووس قد طرح أيضاً إشكالا ًزمنيّاً، بالنسبة إلى جعل العشرين من صفر هو يوم الأربعين؛ لأنّه إذا كانت شهادة الإمام الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرّم، فإنّ الأربعين سيكون في اليوم التاسع عشر من صفر وليس العشرين منه..

وقد ردّ هذا الإشــكال، باحتمال كون شهر محرّم الذي استشهــد الإمام الحسين عليه السلام في العاشر منه (29) يوماً، وليس ثلاثين يوماً.. وإذا كان الشهر كاملاً (أي ثلاثين يوماً) فيجب أن لا يُحتَسَب يوم الشهادة وهو العاشر من المحرّم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد