من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

مولد رسول اللّه صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم (3)

الاحتفال بذكرى المولد النبوي

 

وينبغي أن يحتفل المسلمون جميعاً بمولد النبي الأكرم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم ويقيموا المهرجانات الكبرى في هذه المناسبة الشريفة الّتي كانت مبدأ الخير والبركة، ومنشأ السعادة والكرامة للبشرية جمعاء، وأية مناسبة أحرى بالاحتفال والاحتفاء من هذ المناسبة؟

على أن اقامة مثل هذه الاحتفالات هو نوع من تكريم رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم وهو أمر مطلوب ومحبوب في الشريعة المقدسة.

فقد قال اللّه تعالى: «فالَّذين آمَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصروُه واتّبعُوا النُورَ الَّذي أنزِل مَعَهُ أولئكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ» (1).

وعزّر بمعنى كرَّم وبجّل كما في اللغة (2) وهو لا يختص بزمان دون زمان، فعلى المسلمين في كل وقت وزمان أن يعظّموا شأن رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم ويكرّمونه، سواء في حياته أو بعد مماته، لما له من فضل عظيم على الناس، ولما له من منزلة عند اللّه تعالى.

 

كيف لا والاحتفال بميلاده لا يعني سوى ذكر أخلاقه العظيم ، وسجاياه النبيلة، والإشادة بشرفه وفضله وهي أمور مدحه القرآن الكريم بها إذ قال سبحانه: «وإنّك لَعلى خُلُق عظيم» (3) وقال تعالى أيضاً: «ورَفعنا لك ذكرك» (4) وغير ذلك من الآيات المادحة لرسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم.

فإن الاحتفال بميلاد رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم الّذي يتحقق بذكر صفاته وأخلاقه والإشادة به خير مصداق لرفع ذكره، الّذي فَعلهُ اللّه بنحو ما.

ولو كان رفع ذكر النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم أمراً غير جائز ولا صحيح، بل فعلاً قبيحاً لما فعله اللّه، فيكفي في حسنه وصحته بل ومشروعيته ومطلوبيته أن اللّه تعالى فعله بالنسبة لنبيه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم.

وهل يكون الاحتفال بمولد رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم، وإظهار السرور والشكر للّه تعالى بمقدم نبيه المبارك عبادة للنبيّ كما يزعم البعض إذ يقول:

«الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم» (5).

 

والحال أن العبادة في مفهومها الاصطلاحي الموجب للشرك والكفر ليس إلاّ الخضوع لمن يُعتَقَدْ بألوهيته وتعظيمه بهذه النية (6) وأين هذا من ذكر فضائل النبي في يوم مولده والابتهاج بمقدمه والشكر للّه على ولادته.

ثم إن تعظيم رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم ينطلق من كونه عبداً مطيعاً للّه تعالى، أدى رسالته بصدق وإخلاص، وجسّد بسلوكه وسيرته كل مكارم الأخلاق أصدق تجسيد فالاحتفال بمولده الكريم احتفال بالقيم السامية، وشكر للّه على منّه، وإظهار للحب الكامن في النفوس ليس إلاّ.

والزعم بأنه محرّم لكونه بدعة، أو لأنه لا يخلو عن اشتماله على منكرات ومحرمات كالرقص والغناء فهو مرفوض، مردود لأن الكلام إنما هو حول أصل الاحتفال مجرداً عن المحرمات والمنكرات.

إن الاحتفاء والاحتفال بمولد خاتم النبيين رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم إنما هو تكريم لمن كرّمه اللّه تعالى، وأمر بتكريمه، وحث على احترامه وحبه ومودته، وإنه بالتالي أداء شكر للّه تعالى على تلك الموهبة العظيمة، وتلك العطيّة المباركة حيث مَنّ سبحانه على البشرية عامة وعلى المسلمين خاصة بأن شرف الأرض بمولد عظيم نعمت الأرض ببركة شخصيته وخلقه، وأشرقت بنور رسالته ودعوته، فأية نعمة ترى أولى بالشكر من هذه، وأي شكر أجمل وأفضل من الاحتفاء بمولد هذا النبيّ العظيم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم، وذكر فضائله ومناقبه، للتعرف عليها، والاقتداء بها، وتشديد الحب له بسببها، والابتهال إلى اللّه في يوم ميلاده، وطلب التوفيق الإلهي لمتابعته، والسير على نهجه، والدفاع عن رسالته، والذبّ دون دينه، بعد الشكر للّه تعالى على موهبته هذه؟؟

 

هذا ولقد درج المسلمون في العصور الإسلامية الأولى على الاحتفال بذكرى المولد النبوّي وأنشأوا القصائد الرائعة في مدحه، وذكر خصاله ومكارم أخلاقه، وأظهروا السرور بمولده والشكر للّه تعالى بلطفه، وتفضله به صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم على البشرية.

قال الإمام الدياربكري في تاريخ الخميس في هذا الصدد:

لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه ‌السلام ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم (7).

أجل ينبغي على المسلمين أن يحتفلوا بمقدم نبيهم الكريم ولا يعبأوا بما قاله البعض حيث قال: «الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم» (8).

فهذا القول مغالطة صريحة، إن لم يكن نابعاً عن الغفلة والجهل بعد أن تبين حقيقة الاحتفال وإقامة الذكريات احتفاء بالمولد النبويّ (9).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأعراف : 157.

2 ـ راجع مفردات الراغب : مادّة عزر.

3 ـ القلم : 4.

4 ـ الانشراح : 4.

5 ـ فتح المجيد : ص 154 ، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا المضمون.

6 ـ راجع مفاهيم القرآن في معالم التوحيد : ص 404 ـ 440.

7 ـ تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس : ج 1 ، ص 223 نقلا عن المواهب اللدنية : ج 1 ، ص 27 للقسطلاني.

8 ـ هوامش الفتح المجيد.

9 ـ راجع للتوسّع : معالم التوحيد في القرآن الكريم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد