من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

القصّاصون يثقّفون النّاس رسميًّا (1)

إنه لا ريب في أن القصص حينما يكون حقاً، وفي خدمة الحق، ووسيلة لتوعية الناس، وتعريفهم بواجباتهم، فإنه يكون حينئذ محبوباً ومطلوباً لله تعالى، وقد قال عز من قائل: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ...﴾ (1).

 

وحينما طلب الصحابة من النبي « صلى الله عليه وآله » أن يقص عليهم ، نزل قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (2).

 

وروي أن سعد الإسكاف قال لأبي جعفر: إني أجلس فأقص؛ وأذكر حقكم وفضلكم! قال: وددت أن على كل ثلاثين ذراعاً قاصاً مثلك (3).

 

وكان أبان بن تغلب «قاص الشيعة» (4). وكان عدي بن ثابت الكوفى المتوفي سنة 116 ه‍. إمام مسجد الشيعة وقاصهم (5). هذا هو رأي الإسلام، وصريح القرآن، ونهج أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة وموقفهم.

 

ولكن الأمر بالنسبة لسياسات الآخرين وأهدافهم من هذا الأمر، لم يكن بهذه البساطة، ولتوضيح ذلك نقول:

 

الطريقة الذكية

 

إنه قد كان لا بد للحكم من إشغال العامة، وملء الفراغ الروحي والنفسي الذي نشأ عن إبعاد العلماء الحقيقيين عن التعاطي مع الناس، وتثقيفهم وتربيتهم. وبعد أن استقر الرأي على إعطاء دور رائد لأهل الكتاب في هذا المجال، فقد اتجه الحكام نحو استحداث طريقة جديدة، من شأنها أن تشغل الناس، وتملأ فراغهم، وتوجد حالة من الطمأنينة لديهم، مع ما تقدمه لهم من لذة موهومة، ولكنها محببة. مع الاطمئنان إلى أن هذه الطريقة لا تؤدي إلى إحراج الحكام في شيء، بطرح أي من الأمور الحساسة، التي لا يريدون التعرض لها، أو المساس بها.

 

وهذه الطريقة هي السماح بالقصص لمسلمة أهل الكتاب، من الأحبار والرهبان، حيث ينشرون في الناس ما شاؤوا من أساطير وترهات، ويذهبون بأوهام الناس وخيالاتهم في آفاق الخواء والهباء، ثم يقذفون بها في أقبية الأحلام الصفيقة، أو في أغوار النسيان العميقة والسحيقة.

 

وأهل الكتاب هم أجدر وأبرع من تصدى لهذا الأمر، وأولى من حقق الغاية المنشودة؛ لأن العرب كانوا إلى عهد قريب يحترمونهم، ويثقون بهم وبعلمهم، ولم يتسنَّ للإسلام ـ رغم ما قام به من جهود ـ أن ينتزع هذه النظرة التي لا تستند إلى أساس موضوعي من النفوس المريضة أو الضعيفة.

 

وقد قام أحبار أهل الكتاب بالمهمة التي أوكلت إليهم خير قيا ، وحققوا كل أهداف الحكم والحاكمين، وأهدافاً أخرى كانوا هم أنفسهم يسعون إليها، ويعملون ليل نهار في سبيل الوصول والحصول عليها. وإذا كانوا في السابق يعملون في السر والخفاء، فها هم اليوم يمارسون نشاطهم جهراً وبطلب من الحكم القائم بالذات.

 

إعطاء الشرعية

 

وقد مارسوا نشاطهم ودورهم هذا في ظل قرار رسمي حكومي، يقضي باحتلال أهل الكتاب للمساجد، وأولها مسجد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» في المدينة (6)، ليشغلوا الناس بما يقصُّونه عليهم من حكايا بني إسرائيل، وأي شيء آخر يروق لهم، ويخدم الأهداف التي يعملون من أجلها وفي سبيلها.

 

وكان تميم الداري، الذي هو في نظر عمر بن الخطاب خير أهل المدينة (7) قد طلب من الخليفة الثاني أن يقص، فسمح له، فكان يقص في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» كل جمعة، فاستزاده يوماً آخر فزاده. فلما تولى عثمان زاده يوماً آخر أيضاً (8). وكان عمر بن الخطاب يجلس إليه بنفسه، ويستمع إلى قصصه (9).

 

ويقول البعض: إن تميماً إنما أخذ ذلك من اليهود والنصارى (10) مع أن تميماً كان في بادئ الأمر نصرانياً!! وقيل: إن أول من قص هو عبيد بن عمير. وذلك على عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (11). وكان معاوية إذا صلى الفجر يجلس إلى القاص، حتى يفرغ من قصصه (12).

 

كما أن عمر بن عبد العزيز كان يجلس ويستمع إلى القصاص (13). وكان محمد بن قيس قاصاً لعمر بن عبد العزيز بالمدينة (14). وكان الناس يفخرون بفقيههم وقاصهم: ابن عباس، وعبيد بن عمير (15).

 

وما دام أن القصاصين صاروا مصدر فخر للأمة، فمن الطبيعي: أن نرى كثيرين من الأعيان والمعروفين قد تصدوا للقصص أيضاً، فعدا عن تصدي مثل: كعب الأحبار، الذي كان يقص في عهد معاوية بأمر منه (16). وكان عمر أيضاً يستدعي من كعب الموعظة (17)، وهذا اصطلاح يقصد به القصص، كما يظهر من كتاب: القصاص والمذكرين، لابن الجوزي. وكان تبيع بن عامر، وهو ابن زوجة كعب وربيبه يقص (18).

 

نعم، عدا عمن ذكرنا، فقد كان أبو هريرة يقص، وكذا الأسود بن سريع، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة، وعطاء، وسعيد بن جبير، وثابت البناني، وعمر بن ذر، وأبو وائل، والحسن البصري، وغيرهم (19).

 

فراجع المؤلفات التي تعالج موضوع القصص، والقصاصين، ككتاب: القصاص والمذكرين، وتلبيس إبليس، وقوت القلوب، وغير ذلك لتطلع على أسماء كثيرين ممن كانوا يمارسون القصص في الصدر الأول.

 

حتى النساء

 

وحتى النساء، فإنهن قد مارسن مهنة القصص، فقد روى ابن سعد: أن أم الحسن البصري كانت تقص على النساء أيضاً (20).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. القرآن الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 62، الصفحة: 58.

2. القرآن الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 3، الصفحة: 235.

3. راجع : اختيار معرفة الرجال ص 214 ـ 215 وجامع الرواة ج 1 ص 353 وتنقيح المقال ج 2 ص 12 ومنتهى المقال ص 144. وراجع : نقد الرجال ص 148 وقاموس الرجال ج 4 ص 324 ومعجم رجال الحديث ج 8 ص 68 ـ 69 .

4. معرفة علوم الحديث ص 136 .

5. تاريخ الإسلام للذهبي (حوادث سنة 100 ـ 120 ه‍ـ) ص 418 و 419 .

6. إنها لمفارقة عجيبة في التناقض بين سلوك النبي «صلى الله عليه وآله» وبين سلوك من يدَّعون خلافته، فالنبي الذي سعى لطرد اليهود من الجزيرة العربية، إذ بهم بعد وفاته «صلى الله عليه وآله» يحتلون مكانه بدعوة من الحكام الذين يحكمون باسم النبي «صلى الله عليه وآله».

7. الإصابة ج 1 ص 215 .

8. راجع : المصنف للصنعاني ج3 ص219 وتاريخ المدينة لابن شبة ج1 ص11 و12 وراجع ص10 و15 وسير أعلام النبلاء ج2 ص446 وتهذيب تاريخ دمشق ج3 ص360 . وراجع : الخطط للمقريزي ج2 ص253 . وحول أن عمر قد أمر تميماً الداري بأن يقص، وأنه أول من قص راجع : الزهد والرقائق ص508 وصفة الصفوة ج1 ص737 وأسد الغابة ج1 ص215 وتهذيب الأسماء ج1 ص138 ومسند أحمد ج3 ص449 ومجمع الزوائد ج1 ص190 والإصابة ج1 ص183 و184 و186 والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج8 ص378 و379 ، وفيه : أنه تعلم ذلك من اليهود والنصارى ، وأرجع في الهامش إلى طبقات ابن سعد ج1 ص75 .

وراجع : الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير ص161 وكنز العمال ج10 ص171 و172 عن المروزي في العلم وعن أبي نعيم ، وعن العسكري في المواعظ والتراتيب الإدارية ج2 ص338 والقصاص والمذكرين ص20 و21 و29 وعن الضوء الساري للمقريزي ص129 ومختصر تاريخ دمشق ج5 ص321 .

9. راجع : الزهد والرقائق ص508 والقصاص والمذكرين ص29 .

10. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج8 ص378 و379 .

11. راجع : سائر المصادر المتقدمة ، وتاريخ المدينة لابن شبة ج1 ص13 وكنز العمال ج10 ص171 عن ابن سعد ، وعن العسكري في المواعظ ، والقصاص والمذكرين ص22 .

12. التراتيب الإدارية ج 2 ص 348 عن مروج الذهب ج 2 ص 52 .

13. القصاص والمذكرين ص 33 .

14. راجع : الجرح والتعديل ج8 ص63 والتاريخ الكبير ج1 ص212 وتاريخ ابن معين ص166 وراجع : الحوادث والبدع ص103 عن المدونة الكبرى ، كتاب الوضوء .

15. القصاص والمذكرين ص46 ـ 47 وراجع : المعرفة والتاريخ ج2 ص33 والطبقات الكبرى ج5 ص445 .

16. القصاص والمذكرين ص 25 وراجع : ربيع الأبرار ص 588 وتاريخ المدينة ج 1 ص 8 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 336 عن أحمد ، وحسّن الهيثمي إسناده .

17. القصاص والمذكرين ص 30 .

18. تهذيب الكمال ج 4 ص 314 .

19. راجع : القصاص والمذكرين ص44 و45 و50 و58 و62 و32 . وراجع : المصنف للصنعاني ج3 ص220 والمعرفة والتاريخ ج1 ص391 ومسند أحمد ج3 ص451 ومتمم طبقات ابن سعد ص136 .

20. راجع : التراتيب الإدارية ج2 ص338 .

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد