الإمام الخامنئي "دام ظلّه"
يجب أن نتعرّف أولاً بأنّ حياة الأئمة عليهم السلام لم تعرف بالشكل المطلوب، كما أنّ منزلتهم الجهادية المليئة بالمحن والمصاعب ظلّت مجهولة حتّى على أتباعهم. ورغم تأليف آلاف الكتب الصغيرة والكبيرة، القديمة منها والجديدة، حول حياة الأئمة عليهم السلام إلاّ أن الإبهام ما زال يسود القسم الأعظم من حياة هؤلاء الأبرار، هذا إضافة إلى أنّ الحياة السياسية لأبرز شخصيات آل البيت عليهم السلام والتي تشمل قرنين ونيفاً من أخطر وأدقّ مراحل تاريخ الإسلام، قد واجهت التحريف والإهمال والتجاهل والعداء من قِبل الكثير من المحقّقين والكتاب والمؤلفين. ولذا فإنّنا نفتقر إلى تاريخ مدون ودقيق حول حياة هؤلاء القادة العظام المشحونة بالحوادث والملاحم.
إنّ حياة ثامن الأئمة عليه السلام والتي تشمل ما يقارب عشرين عاماً من تلك المرحلة المصيرية تعدّ من أهم وأبرز فترات المرحلة المذكورة، ممّا يتطلّب التأمل فيها وإجراء التحقيقات حولها.
وأهم بُعد لم يُلتفت إليه بشكل جدّي في حياة الأئمة عليهم السلام هوعنصر "النضال السياسي الحازم". فمنذ بدء النصف الثاني من القرن الهجري الأول، والذي امتزجت فيه الخلافة الإسلامية – علانية بالأحابيل الطاغوتية، وتبدّلت الإمامة الإسلامية إلى سلطة طاغوتية ظالمة، بدأ أئمة أهل البيت عليهم السلام بتصعيد نضالهم السياسي وفق أسلوب يتناسب مع الأوضاع والظروف. وكان أهمّ هدف لهذا النضال، هو إقامة النظام الإسلامي وتأسيس حكومة قائمة على الإمامة.
وممّا لا شكّ فيه أن تبيين وتفسير الدين على ضوء رأي أهل البيت عليهم السلام وإزالة التحريف عن المعارف الإسلامية وأحكامها، كانا بدورهما هدفين مهمين لجهاد أهل البيت، ولذلك تحمّل الأئمة عليهم السلام وأنصارهم الكثير من الآلام في حياتهم المرّة والجهادية.
معاداة الظلمة
وخلال المرحلة التي دامت مائة وأربعين سنة بين واقعة عاشوراء وولاية ثامن الأئمة عليهم السلام فإنّ التيار الذي كان يسير في ركب أئمة أهل البيت، كان يعتبر – على الدوام – من أكبر أعداء أجهزة الخلافة وأشدّها خطورة. ففي تلك المدّة توفّرت الظروف المناسبة لمرّات عديدة واقتربت نضالات مدرسة أهل البيت عليهم السلام التي لزم تسميتها بـ"النهضة العلوية" من الانتصارات الكبيرة، لكن وفي كلّ مرة كانت تظهر موانع جديدة في طريق النصر النهائي، وكانت أكبر الضربات توجّه – عادة – نحو المركز الرئيس لهذه النهضة، أي شخص الإمام في كلّ زمان فيعمل على زجّه في السجن وإسقاطه شهيداً، وعندما كان يصل الدور للإمام الآخر كان الظلم والاضطهاد يصلان إلى حدٍّ تحتاج معه عملية إعداد الأرضية إلى فترة أطول.
لقد تخطّى الأئمة عليهم السلام العواصف الشديدة والمراحل الصعبة والشاقّة بذكاء وصبر وبسالة، ولم يستطع الخلفاء الأمويون والعباسيون في أي مقطع زماني أن يقضوا على الإمامة بقضائهم على الإمام. وبقي هذا السيف البتّار ينخر في كيان جهاز الخلافة، ويسلب راحته على الدوام وعندما استشهد الإمام موسى بن جعفر عليه السلام نتيجة سقيه السم بعد أن قضى سنين طويلة في سجون هارون الرشيد، سادت الدكتاتورية جميع أنحاء المنطقة التي كان يحكمها العباسيون. وفي ذلك الجو من الكبت والقمع الذي وصفه أحد أنصار الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام بأنّه: "كان يقطر فيه الدم من سيف هارون" في ذلك الجو استطاع إمامنا المعصوم والعظيم بفطنته وحكمته أن يصون مدرسة أهل البيت من الأخطار التي كانت تحدق بها، ويمنع من تشتّت أصحابه وشعورهم باليأس والاضطراب كما استطاع باللجوء إلى أسلوب "التقية" أن يحافظ على حياته التي كانت في الحقيقة محور أتباعه، ويواصل نضاله في عهد أكبر الخلفاء العباسيين قوة وفي مرحلة استقرار وثبات حكومة ذلك النظام.
ولا يفوتنا هنا أن نذكر بأنّ التاريخ لم يستطع أن يجسّد لنا بوضوح مرحلة السنوات العشر من حياة ثامن الأئمة في زمان هارون وبعده، أي خلال السنوات الخمس من الحرب الداخلية بين خراسان وبغداد، ومع ذلك يمكن من خلال التدبّر أن نفهم بأنّ ثامن الأئمة كان في تلك المرحلة يواصل نفس النضال الذي بدأه أهل البيت عليهم السلام بعد واقعة عاشوراء، دون أي تباين من حيث الهدف وجهة النضال.
تنامي النهضة العلوية
وبعد أن فرغ المأمون في عام 198 ه من حربه مع الأمين، وسيطر على السلطة، أقدم قبل أي شيء على ضرب العلويين ونضالات أتباع مدرسة أهل البيت. وقد أخذ بنظر الاعتبار تجارب جميع أسلافه، التجارب التي جسدت حركة تلك النهضة وعمقها وسعتها من جهة أخرى. لقد أدرك المأمون أنّ الظلم الهاروني رغم سمّ الإمام لم يستطع – مطلقاً – أن يمنع من الانتفاضات والنضالات السياسية والعسكرية والإعلامية والفكرية لأتباع أهل البيت عليهم السلام.
ولمّا لم يكن يتمتّع بنفس قوة أبيه وأسلافه من الحكام، وكان يرى في الحروب الداخلية بين بني العباس تهديداً للسلطة العباسية، فإنّه أحسّ بضرورة متابعة خط نهضة العلويين بجدية أكبر. ومن المحتمل أنّ المأمون كان يفكّر بشكل واقعي في تقييمه لخطر أتباع أهل البيت على الحكومة. فخلال 15 سنة، أي منذ استشهاد الإمام السابع حتّى ذلك اليوم، وخاصّة خلال السنوات الخمس من الحرب الداخلية، استطاع تيار أهل البيت أن يعدّ نفسه إلى درجة كان مهيئاً معها لإعلاء راية الحكومة العلوية.
لقد أحسّ المأمون بهذا الخطر، وقرّر التصدّي له على الفور، ولذلك وجه دعوة للإمام الثامن للقدوم إلى خراسان من المدينة، وأجبره على قبول ولاية العهد.
الإمام عليه السلام وولاية العهد
وها نحن نرى من الضرورة الإشارة باختصار إلى ولاية العهد التي اقترحت على الإمام الرضا عليه السلام. لقد رأى الإمام عليه السلام نفسه في تلك الفترة أمام تجربة تاريخية عظيمة، وأمام معركة سياسية خفية بحيث أنّ انتصارها وفشلها كان قادراً على تغيير مصير أتباع أهل البيت عليهم السلام. في تلك المعركة نزل المأمون إلى الساحة بجميع إمكانياته.
نعم، لقد نزل إلى الساحة بأقصى ذكائه وفطنته وتدبيره، بحيث أنّه لوكان ينتصر ويستطيع أن ينفّذ ما خطّط له، لكان – بلا شك – يحقّق الهدف الذي لم يستطع أي من الخلفاء الأمويين والعباسيين منذ السنة الأربعين للهجرة، أي منذ استشهاد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن يحقّقوه، وذلك الهدف كان متمثلاً بالقضاء على جذور مدرسة أهل البيت، وعلى تيار المعارضة الذي كان يشكّل على – الدوام – شوكة في عيون أقطاب الحكومات الطاغوتية.
غير أنّ الإمام الرضا عليه السلام وبتدبيره الإلهي انتصر على المأمون، وجعله يتراجع في ساحة المعركة السياسية التي أوجدها بنفسه. فلم تضعف مدرسة أهل البيت، وإضافة إلى ذلك أصبحت تلك الفترة التي امتدت إلى عام "201" ه. ق، أي العام الذي تحقّقت فيه ولاية عهد الإمام عليه السلام من أكثر الأعوام بركة في تاريخ أهل البيت عليهم السلام حيث نفخت روحاً جديدة في نضالات العلويين. كلّ ذلك بفضل التدبير الإلهي لثامن الأئمة وأساليبه الحكيمة التي لجأ إليها في ذلك الامتحان الكبير.
ولكي نسلّط ضوءًا أكبر على هذه الحادثة المدهشة، نرى من اللازم الإشارة ولو باختصار إلى الأساليب التي انتهجها كل من المأمون والإمام الرضا عليه السلام في تلك الحادثة.
الأهداف الخبيثة للمأمون
لقد كان المأمون يريد من وراء دعوته الإمام الثامن عليه السلام للمجيء إلى خراسان، تحقيق جملة من الأهداف. أولها وأهمها: تبديل ساحة النضال الثوري الشديد إلى نشاط سياسي لا ينجم عنه أيّة أخطار. ومثلما قلنا فإنّ أتباع أهل البيت عليهم السلام كانت لهم نضالات متواصلة ومكثّفة في ظلّ "التقية".
وهذه النضالات التي كانت متزامنة مع ميزتين، لعبتا دوراً كبيراً في ضرب سلطة الخلافة، وتلكما الميزتان تمثلتا بالمظلومية والقدسية.
لقد كان أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومن خلال الاستناد إلى هذين العاملين يوصلون إلى قلوب الناس وأذهانهم، تصوراتهم وأفكارهم وآرائهم التي كانت متمثّلة بالتفسير وتبيين الإسلام على ضوء آراء أئمة أهل البيت عليهم السلام، ويستقطبون إليهم من كانت في قلبه ولوذرة واحدة من الإيمان وبهذه الوسيلة بدأت مدرسة أهل البيت تنمو يوماً بعد آخر، وتحتل مكانة مرموقة لها في عالم الإسلام. نعم إنّ المظلومة والقدسية استطاعتا من خلال التسلّح بآراء وأفكار مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن تقود الانتفاضات والحركات المسلحة ضدّ جهاز الخلافة في كلّ مكان وزمان.
كان المأمون يعتزم سلب هذا الانتشار من هؤلاء المناضلين، وجرّ الإمام من ساحة النضال الثوري إلى الساحة السياسية بغية القضاء على ديمومة حركة مدرسة أهل البيت عليهم السلام التي تمخضت عن ذلك الاستتار واتسعت بمرور الزمن. ولو كان المأمون قد نجح في خطته، لكان يسلب هؤلاء الميزتين المؤثرتين اللتين أشرنا إليهما، إذ أنّ الجماعة التي يكون قائدها من أبرز أفراد الخلافة، وولي عهد ملك مطلق العنان وله حقّ التصرّف في أمور البلاد لن يكون لا مظلوماً ولا مقدساً.
هذا التدبير كان يستطيع أن يضع فكر مدرسة أهل البيت في صف العقائد والأفكار التي كانت رائجة آنذاك وتغييرها إلى فكر غير معارض للنظام.
ثانياً: إثبات بطلان ادعاءات أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام حول كون الخلافتين الأموية والعباسية غير شرعية، وإضفاء صبغة الشرعية عليهما. وكان المأمون يسعى بهذه الأحابيل لإثبات أنّ ادعاء الشيعة حول عدم شرعية الخلافة المفروضة والذي يعد من المبادئ العقائدة لمدرسة أهل البيت، لا أساس له من الصحّة، وينشأ من الضعف والشعور بعقدة الحقارة.
وكان المأمون يريد أن يؤكّد للناس بأنّه لو كانت الخلافة الآخرين غير شرعية وظالمة، فإنّ خلافته هو الآخر يجب أن تكون غير شرعية، في الوقت الذي أثبت الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام بانضمامه إلى حكومة المأمون، أثبت شرعية تلك الحكومة. وعلى هذا الأساس فإنّ خلافة البقية كانت شرعية، وهذا ما يخالف جميع ادعاءات أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
نعم، كان المأمون يريد بهذه الوسيلة أن يبادر الإمام عليه السلام للتأكيد على شرعية الحكومات السابقة ويزول نتيجة لذلك أحد الأركان العقائدية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام والمتمثّل بالنظر إلى الحكومات السابقة على أنّها حكومات جائرة وظالمة.
وإلى جانب ذلك فإنّ ادعاء أتباع مدرسة أهل البيت فيما يخصّ الزهد والتقوى وعدم اعتناء الأئمة عليهم السلام بالدنيا كان يفقد مفهومه بذلك العمل، ويتمّ التصوّر آنذاك بأنّ الأئمة لا يغضون النظر عن الدنيا إلاّ حينما لا يستطيعون الوصول إليها، ولكن عندما تفتح أبواب جنّة الحياة لهم يسارعون لدخولها مثلما يفعل الآخرون!
ثالثاً: السعي بهذه الوسيلة لتجميد نشاط الإمام عليه السلام "وهو الذي كان محوراً للمعارضة والنضال" وبالتالي السيطرة على جميع العلويين، ممّا كان يحقّق للمأمون نصراً كبيرة لم يحقّقه من قِبل أي من أمثاله في بني أميّة وبني العبّاس.
رابعاً: فرض الحصار على الإمام الذي كان عنصراً شعبياً وقبلة للآمال ومرجعاً للناس، والتقليل من منزلته الاجتماعية، ووضع الحواجز بينه وبين الناس، بل بينه وبين مشاعر الناس وأحاسيسهم.
خامساً: سعى المأمون بهذه الوسيلة أن يكسب له شخصية وسمعة. وكان من الطبيعي في ذلك الزمن أن ينظر الناس باحترام إلى المأمون باعتباره عين أحد آل بيت الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وشخصية مقدّسة ومعنوية ولياً للعهد، مبعداً أخوته وأبناءه عن هذا الامتياز، هذا إضافة إلى أنّ المتعارف عليه هو أنّ اقتراب شخصية دينية من أخرى غير دينية يقلّل من شأن تلك الشخصية الدينية، فيما يزيد من شعبية واحترام الشخصية غير الدينية.
سادساً: كان المأمون يتصوّر أنّه بعمله هذا يستطيع أن يجعل من الإمام مبرّراً لأعماله. وطبيعي أن شخصاً عالماً ومتقياً مثل الإمام الرضا "عليه السلام" الذي كانت له منزلة رفيعة، كان يستطيع أن يبرّر ما يقوم به المأمون من ممارسات وذلك لاعتماد الناس عليه وثقتهم الكبيرة به وباعتباره من آل بيت الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. ولو كان يعمل على تبرير ممارسات الحكومة لما استطاع أيّ صوت معارض التقليل من شأن الحكومة، وإضافة إلى ذلك كان المأمون يفكّر بأهداف أخرى.
ولذا نرى أنّ هذا التدبير هو بدرجة من العمق بحيث أنّ شخصاً غير المأمون كان لا يستطيع القيام به. ومن هنا فإنّ أصدقاء المأمون والمقرّبين إليه كانوا يجهلون إبعاد ذلك التدبير وجوانبه.
ونحصل من بعض الوثائق التاريخية أنّ الفضل بن سهل "الذي كان وزيراً وقائداً عاماً ومن أقرب المقرّبين إلى المأمون" كان لا يعلم بهذه السياسة. ولكي يحقّق المأمون أهدافه ببساطة ولا يواجه أيّة عقبات، كان يؤلّف قصصاً كاذبة حول دوافع خطوته تلك.
ويلزم القول إنّ سياسة المأمون لم تكن اعتباطية، بل جاءت عن خبرة ووفق دراسات. وفي المقابل تصرف الإمام الرضا عليه السلام بشكل أحبط فيه جميع المحاولات والخطط الجهنمية للمأمون، وسلب منه المبادرة.
وبذلك فإنّ المأمون ورغم المحاولات التي بذلها والقوت الذي صرفه لم يستطع أن يحقّق أياً من أهدافه، بل وإنّ السياسة التي انتهجها أدّت إلى نتائج عكسية، بحيث أنّه وبعد فترة وجيزة تخلّى عن سياساته السابقة، وكأسلافه لجأ إلى الأسلوب القديم، أي أسلوب التصفية الجسدية، وكشف عن وجهه الحقيقي وشخصيته الفاسدة والقذرة.
إيمان شمس الدين
حيدر حب الله
الشيخ باقر القرشي
عدنان الحاجي
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ محمد صنقور
محمود حيدر
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
لماذا يأخذ المفسرون بكلام بعضهم؟
التسارع والتباطؤ وإنتاج المعارف (3)
أزمة الحبّ والإيمان (2)
الإمام الرضا (ع) والمواقف من النظام (1)
الإمام الرضا (ع) وحركة الواقفة
من بحوث الإمام الرّضا (ع) العقائديّة (1)
صور من بلاغة القرآن الكريم
من آداب طلب العلم
أزمة الحبّ والإيمان (1)
التسارع والتباطؤ وإنتاج المعارف (2)