مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

الحق الأعلى في الجمال.. أين هي مكامن القصة الساحرة؟

"اعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه".[1]

 

إنّ الاهتداء إلى الحق والجمال الواقعي غير ممكن إلا بمعرفة الباطل والقبح. "إنما تُعرف الأشياء بأضدادها"، مقولة دقيقة تبقى إلى أبد الدهر.

 

قد أجاز الله تعالى لأهل الباطل أن يتوغلوا إلى أعماق الباطل (مراتب الضلالة والكفر والإلحاد والقبح والشر)، وأن يقدموا باطلهم في مختلف أنواع الأساليب والنماذج الفكرية والاجتماعية والسياسية والفنية.. لا نستطيع أن نجزم بأنّ ما وصلت إليه الحضارة الغربية اليوم هو آخر مراتب الباطل وأسفل سافله، لكن يمكن أن نقطع بأنه أعمق ما وصلت إليه البشرية في سلوكها نحو الباطل.

 

لم يتعرف أهل الحق وبُغاته على هذا الباطل الأخير لأسبابٍ عديدة؛ فحرموا أنفسهم من إدراك الحق في أعلى مراتبه. ولذلك فإن الحق الموجود عندهم يعجز عن مقاومة هذا الباطل ودمغه ودحضه. هذا أحد أهم أسباب العجز في الصراع الناعم والمواجهة الثقافية.

 

تُمثل هوليوود ذروة هذا الباطل، لأنها عصارة مسيرة الغرب الجامحة المتسارعة نحو ذلك القعر المهول. حين بدأ الغرب بتشكيل رؤيته حول الحياة والوجود متحررًا من عقال الكنيسة وقمعها، انبعث الفكر الفلسفي كردة فعل على كل ما هو إلهي ومُقدس، رافضًا لتلك الجنة الأخروية المزعومة، متحديًا إيجادها وتحقيقها على الأرض. وكانت البروتستانتية (في شكلها النهائي) بداية هذا الانعتاق، بإعلانها عن قداسة المادي والدنيوي.

 

شكّلت أعمال الفلاسفة الكبار التي تزامنت مع الثورة الصناعية، أرضيةً لانطلاق الفكر البشري نحو اكتشاف معاني الحياة والجمال. كانت الثورة الصناعية قد قلبت حياة الغربي رأسًا على عقب وجلبت له الكثير من الإمكانات. ثم أضحت هذه الأعمال بيئة مناسبة لحركة أدبية واسعة، تمثلت في الروايات الكبرى التي سعت إلى تقديم قصة للحياة البشرية، وللإنسان في سعيه المحموم لاكتشاف المعنى من الوجود. وما لبثت هذه الأعمال أن وجدت فرصة للتعبير عن نفسها في إطارٍ فنّي أشد تعقيدًا وبساطةً في الوقت نفسه؛ وهو فن السينما والشاشة.

 

كانت القصة تُمثل تلك الدرجة الرفيعة من أساليب تقديم الفكر. وكانت القصة بمثابة محك الأفكار، والمتفحِّص الدقيق للفلسفة، حيث تمحق كل غث فيها وتُلغي عبثيات الأفكار، وتحد من التوغل في اللامعنى. أما السينما فقد مثلت ذلك الفن الأعلى في عالم تقديم القصة.

 

 هكذا كان الغرب ينتقل من الفلسفة إلى الفكر ثم إلى القصة والسينما، في الوقت الذي كان العقل المسلم جامدًا عند الفلسفة، بعيدًا من إثارات الفكر (بسبب رتابة حياته وسذاجتها المفرطة)؛ وما لبث أن صار مناهضًا للقصة بسبب خياليتها وبعدها عن العقل المجرد، حتى وصل إلى رفض السينما وتحريمها لأنها أداة الباطل والكفر. فترك ساحة البيان الأعظم للآخر. ووقف متفرجًا على أبناء الإسلام يخرجون منه أفواجًا أفواجًا، وهم يقرأون قصة واحدة فقط، وهي رواية الغرب ورؤيته الممتزجة بالجاذبية المفعمة بالجمال.

 

لقد قدم الغرب قصته وروايته للحياة متفردًا بقوة السلطة والاستعمار، ثم تقدم مسافات شاسعة مستغلًّا الفارق النوعي في التكنولوجيا، مستفيدًا من الآراء الدقيقة والجزئية، العملية والحياتية للعلوم الإنسانية والنفسية، فأضحت قصته هذه سحرًا فريدًا يخلب الألباب ويُعجز النفوس، مُشعرًا كل من حوله بالدونية، فارضًا عليه التبعية الحتمية!

 

 لكن هذا الفكر الغربي الذي بدأ من نقطة الضلالة، ما كان ليتبلور في قصة الحق أبدًا، بل تجلى في أعلى مراتب الباطل، وهو يكتسي حلة الجمال الفائق الخلاب.

 

الباطل المحض زاهق بنفسه، لكنّ الباطل المُغلَّف بالجمال شديد الضلالة وقوي الفتنة. وما دام الإنسان غير قادر على تفكيك الجمال عن الباطل، فسوف يقع ضحية هذه الضلالة العمياء. وما دام أهل الحق غير قادرين على اكتشاف الجمال في هذا الباطل، فلن يتمكنوا من تقديم قصتهم التي تعتمد على هذا الجمال.

 

إن ما أصاب الكثيرين ممن يُرتجى منهم بعث الفكر في الجسد الإسلامي هو أنهم عموا عن الجمال من شدة نفورهم من الباطل، وغلب عليهم رؤية القبح فيه، فصار عداؤهم للباطل ممتزجًا بالعداء للجمال، وعجزوا عن تقديم روايتهم الفريدة للحياة بأسلوب البيان الساحر.

 

الباطل العميق والضلالة الشديدة لا يمكن لها أن تسود وتنتشر ما لم تستعن بأعلى مراتب الجمال. مع كل دَرَكة من الباطل لا بد من درجة من الجمال. وإذا كانت المرأة عنوان الجمال في عالم الطبيعة، فقد توغل الفن الغربي في اكتشاف جمالية المرأة واستخدامها بدرجة كاد أن يستولي على عالم الجمال كله. وأهل الحق عندنا ما زالوا يرون في ذلك إباحية قذرة.

 

هذا مثال من عشرات الأمثلة على ضياع الجمال في الفكر المسلم كردة فعل على استخدام الباطل له. وحين نفقد رؤية الجمال وامتلاك معاييره، نعجز عن تقديم قصتنا الجميلة، ويبقى الباطل سائدًا متبخترًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. نهج البلاغة، ص205.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد