مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

هل المشكلة في الإسلام أو في المسلمين؟

ثمة إجماع بين المؤمنين بالإسلام على وجود مشكلة ترتبط بتقديم معارف الدين للناس، وهناك الكثير من الكلام حول قدرة الإسلام على حل معضلات الحياة الحديثة.. وإذا كنّا نعتقد في قرارة ذاتنا أنّ الإسلام في حقيقته دين شامل وخالد، فهل ستكون المشكلة هنا مشكلة استنباط أو عرض وتقديم؟ وهل الآليات الاستنباطية التي نستعملها عاجزةً أو قاصرة بذاتها، وبالتالي يجب إعادة النظر فيها أو تطويرها؟ أو أنّ العجز يرجع إلى قضية ابتكار وتجديد خطاب ديني يتناسب مع متطلبات العصر؟

 

وما قيل بأنّ "الاجتهاد ظل العامل الأساس في بلورة حيوية الإسلام من صلبه طوال عدة قرون مؤكدًا خلالها نجاعته، حيث كان علماء الإسلام ولا سيما الفقهاء يرجعون على ضوء ذلك المنهج إلى القرآن والسنة لاستنباط وظائف المؤمنين العملية لتسيير عجلة حياتهم كمسلمين دون الاصطدام بأي حرج"،[1] يجب أن يُعاد النظر فيه، لأنّ هذه النظرة قد يُفهم منها أنّ أوضاع المسلمين في تلك العصور كانت على ما يرام، وأنّ تطبيق الإسلام كان بمستوى ضمن لهؤلاء المسلمين تسيير عجلة حياتهم، في حين أنّ تلك العصور تميزت بالكثير من التخبط والظلامية والأزمات الحادة والمعاناة، ربما بما لا يقل أبدًا عن عصر الاستعمار. غاية الأمر أنّ عصر الاستعمار القريب منّا، لا يمكننا فهم تحدياته على ضوء التراث الإسلامي الذي راكمه علماء الإسلام في العصور السالفة.

 

ومن الطبيعي أن تكون الغزوات الثقافية للغرب مُصاحبَة بقضايا لم تكن معهودة من قبل. وقد وجدنا أنّ الفقهاء والعلماء نهضوا كما في العصور السالفة، للتعامل مع هذه التحديات وتحليل هذه القضايا من أجل بقاء عجلة المسلمين سائرة بالمقدار الذي يحفظ هويتهم.

 لكن الكلام هنا ليس في حفظ الهوية والانتماء، بل فيما يتعلق بتطبيق الإسلام وإقامة الدين. وهذا ما لم يتحقق على مدى تلك العصور حين آلت أمور المسلمين إلى حكام الجور وسلاطين الجهل والأهواء وممالك العصبيات والقوميات.

 

وباختصار، إنّ المعاناة كانت ولا تزال موجودة، وهي عظيمة الخطب، وتطبيق الدين كمشروع إلهي وخطة ربانية تهدف إلى إصلاح العالم وتبديل الأرض لم يتحقق على مدى تلك العصور. وهذه هي المشكلة الكبرى التي نجم عنها كل أنواع المشاكل سواء ما كان من داخل المجتمعات المسلمة أو من خارجها.

لم يتفق المسلمون يومًا على كون الإسلام خطة ذات مشروع واضح المعالم لتغيير العالم؛ بل كان السائد بينهم هو تلك النظرة التي ترى في الإسلام مجموعة من الأحكام التي تنظم حياة الفرد والجماعة. وقد انعكس ذلك على عمليات الاستنباط وآليات الاجتهاد وتشخيص الأصول. ويمكن القول إنّه لو توجه الاجتهاد منذ بدايات عصر الغيبة نحو الكشف عن هذا المشروع ما كنّا لنواجه هذا المستوى من التحديات أو نتباحث في قصور الأحكام وعجز الفقهاء.

 

إنّ وقوف علماء الإسلام عمومًا منفعلين تجاه قضايا الحياة هو الذي سيحدد قدرتهم وإسهاماتهم على ضوء فهمهم واستيعابهم لهذه القضايا؛ لكن يبقى الفقه الانفعالي عرضة لكل أنواع الصدمات التي تعصف به من الخارج؛ وهذا ما كان يظهر على مدى العصور، وإن تفاوت حجم التحديات ونوع التهديدات.

المشكلة إذًا في الانفعالية لا في قصور آليات الاستنباط وعجز الأصول. كان المطلوب أن تتوجه الجهود منذ البدايات نحو اكتشاف معالم المشروع الإلهي وأهداف النبوة بعد تثبيت الاعتقاد بضرورتها. ولو حصل ذلك لكنّا أمام تراث ديني يستكشف أهله ثقافات شعوب العالم كله وحضاراتها، ويستشرف مسارات المجتمعات الأخرى وتحولاتها، فلا ينصدم ولا يُفاجأ، ويبقى على نهج {كَلِمَةُ اللَّهِ‏ هِيَ‏ الْعُلْيا}.[2]

 

لا يشك أحد بوجود استعدادات عظيمة في هذه الأمة لا يجري تفعيلها ولو في الحد الأدنى.. لا يمكن الادّعاء بأنّ كل ما استُنبط من معالم الدين وأحكامه يصل إلى المسلمين وغيرهم؛ ما زال هناك الكثير من العمل المطلوب في مجال التبليغ. لكنّ السؤال هو ما الذي يجب أن نبلغه للناس في هذا العصر؟ فقد أصبحنا في مرحلة تجربة الدولة والقيادة والتصدي، وأضحت الجماهير تتوقع الكثير على مستوى التطبيق والعمل. هناك مسافة شاسعة تفصل بين الزمن الذي كنّا فيه في موقع نقد تجارب الآخرين، والزمن الذي أصبحنا مطالَبين بتقديم تجربة رائدة.

إنّ عدم إدراك متطلّبات هذه المرحلة هو المسؤول الأول عن كل هذا الجدال الدائر حول مدى فعالية آليات الاستنباط التقليدية. إن كنّا بصدد انتقاد الأصول التي اعتُمدت لاستنباط الأحكام أو العقائد وغيرها، يجب أن نتوقف أولًا عند تلك الحاجات التي يُدّعى أنّها غير مؤمَّنة، أو تلك الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها. لا يبدو أنّ هناك أيّ نوعٍ من التوافق على تحديد جوهر المشكلة؛ ولهذا أسبابه التي يمكن اكتشافها في الأصول والقواعد.

 

نبدأ من نقطة مهمة وهي ما نلاحظه من نقصٍ واضح في الكفاءات التي تتشكل ضمن بيئة الاجتهاد. التجربة الحكومية والتنظيمية واستحقاقات التصدي تتطلب كفاءات لا يتم طرحها أو تأمينها في هذه الميادين والمؤسسات. يوجد مئات الخرّيجين الذين خضعوا للدراسات العليا لأكثر من عقد، ومع ذلك يبقى النقص مستشعَرًا بوضوح. لكن ذلك لا يرجع إلى ضعف الاستعدادات أو انحراف التوجهات، بل إلى ذلك الانفصال عن الواقع الكبير. ويرجع هذا الانفصال إلى عدم وجود آليات علمية واضحة لدراسة هذه الواقع وتحليله، وهذه هي القضية الثانية التي ترجع إليها كل المشاكل.

 

 مجرد إقبال علماء الدين واهتمامهم بشؤون الحياة وقضايا المجتمع غير كاف. هناك حاجة ماسة إلى تبديل هذا الاهتمام إلى مسار علمي يُبنى على أصول ومنهج قويم.

التوافق على أصول الاستنباط كان يُعد إنجازا عظيمًا، لأنّه أوجد نوعًا من الوحدة بين العلماء، لكن سرعان ما تتمزق هذه الوحدة حين لا يتحقق التوافق على تحديد المشكلات وتعيين الأزمات.

يُعزى الفضل الكبير إلى علم أصول الفقه في تشكيل الذهنيات الاجتهادية المتقاربة، لكن هذه الذهنيات سوف تختلف وتتنازع عند مواجهة الواقع. هكذا نجد هؤلاء وقد عادوا إلى ما رفضوه في أصول الفقه من استعمال المصالح المرسلة والاستحسان والقياس والرأي وسد الذرائع وغيرها من الأصول. ولئن كان هناك عوامل وراء تفرق المسلمين وتشعب مذاهبهم، فإن هذه الأصول ستكون على رأسها.

 

قبل تقديم الحلول والدعوة إلى التجديد في أصول الاستنباط يجب تحديد المشكلة الحقيقية التي نستشعر آثارها في مختلف شؤون حياتنا وتجربتنا. وإليكم لائحة من المشاكل التي نعتبرها أصل معاناة المسلمين اليوم:

منها مشكلة بُعد الجماهير عن القيادة، وعدم الاطّلاع على مشروعها وأولوياتها وخطابها. والتي تظهر في مختلف مجالات الحياة.

ومنها مشكلة التخلُّف عن الرَّكب العلمي العالمي.

ومنها مشكلة عدم تبلور فن إسلامي يليق بالأفكار والعقائد الإسلامية ورؤيتها الكونية.

ومنها العجز المزمن عن تنزيل الأفكار الإسلامية في مجالات التعليم العام والإعلام.

ومنها عدم تبلور معالم منهج إداري إسلامي متميز.

ومنها الإخفاق الكبير على صعيد تقديم الروحانية الإسلامية.

 

وبالنظر إلى هذه المشاكل وغيرها يتّضح لنا بعض جوانب التخلُّف الحضاري والإخفاق في حل المشاكل الأساسية للمجتمع وهزالة المشاركة في حل أزمات البشرية وانعدام الرؤية فيما يتعلق بإنقاذ البيئة.

لا شك بأنّ هناك مساهمات جدية تحاول مقاربة هذه المشاكل، لكنّنا نتحدث هنا عن ضرورة تشكيل ذلك العقل الـمُشترَك الذي يتحقق وفق آليات مبنية على أُصول ثابتة. وفي ظل العقل الـمُشترَك يتجه المجتمع المسلم نحو حل مشاكله ومواجهة معضلات حياته، عسى أن يجد طريقه نحو بناء حضارة إسلامية جديدة.

 ــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. كديور، 2015.

[2]. سورة التوبة، الآية 40.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد