مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

في البحث عن الحبّ... ومحنة إنسان اليوم

يقف الإنسان الذي يعيش في المجتمعات التي تُزيل كل أنواع الضوابط في العلاقات، موقف المتردد الحائر بين الاستمتاع والحبّ. وموقفه هذا لا يُحسد عليه ولا يتمنّاه أحد إلا من جمح خياله عبر بعض الأفلام والمسلسلات الرومانسيّة البعيدة عن الواقع. فالواقع مختلف جدًّا.

 مع وجود كلّ هذه العروضات الميسّرة أمام الجنسين سواء في المدارس والجامعات أو أماكن العمل وغيرها، يشعر الرّجال والنّساء أنّهم أمام فرص كثيرة ودائمة، ويمكن أن تصبح أفضل وأجمل مع مرور الوقت. والدّليل هو التّجارب التي عاشوها منذ حداثة سنّهم. أعطتهم تجاربهم المتعدّدة أنّ هناك دومًا من هو أفضل.. إلى أن ينتهي إلى الأفضل الذي قد يُطلقون عليه عنوان شريك الرّوح السولمايت!

لكن من جانبٍ آخر، المغريات كثيرة والعروض لا تتوقّف. فمن الطبيعيّ أن يقول من يعيش وسط هذه البيئة المنفتحة: لا بأس بأن أخوض تجارب سطحيّة أو عابرة كجزءٍ من عمليّة البحث عن ذلك السولمايت. لا أعرف، قد يكون شريك روحي على هذا الطّريق أو يعيش أو يعمل معي ولا أدري. فلأنفتح على كلّ شخص أراه ولا أضع أيّ عائق؛ ولا شيء أمتع من علاقات عابرة، لأنّها تحقّق بعض اللّذة دون مسؤوليّة.

 

في العلاقات العابرة يوجد اتّفاق ضمنيّ على أنّ هذه العلاقة ليس فيها أيّ نوع من المسؤوليّة؛ أيّ التزام هنا يعني التّنغيص ويجب التّحرّر منه. وفي كثيرٍ من الأحيان يجتنّب الطّرفان أيّ نوع من التّعارف حتّى معرفة الأسماء!

 هنا يتمّ تنزيل العلاقة بين الجنسين إلى هذا المستوى الحيوانيّ رغبةً في الخلاص من أيّ غمّ أو همّ. توق إلى متعة خالصة من شوائب الالتزام.

كلّ ذلك يبدأ من هذا النّظام الاجتماعيّ الذي ألغى أشكال الضّوابط والحدود بين الجنسين. هذا ناتجٌ طبيعيّ لمثل هذا النّظام.

 ويبقى في أعماق كلّ من يعيش داخل هذا النّظام رغبة بالوصول إلى الحبّ. والحبّ مهما كان مكتومًا أو مكبوتًا فإنّه يمثّل المحرّك الأوّل في التوجّه إلى الآخر وطلبه. والجنس الخالي من الحبّ سرعان ما يصبح مملًّا أو سببًا لعذابٍ نفسيّ.

 

هنا قد يتحوّل الجنس إلى مطلب صحيّ بمعنى أنه يجب عليّ أن أمارس الجنس من أجل صحّتي وسلامتي. لكنّ الإنسان لم يُخلق بهيمة، وإن كان يستطيع أن ينزل إلى مستوى الأنعام وأدنى.

البحث عن الحبّ عن طريق الجنس يصعّب الوصول إليه ولا يسهّله أبدًا. صحيح أنّ بعض الجنس يجعلنا ندرك إن كان هناك انسجامٌ ما، لكن استعمال الجنس لاكتشاف الانسجام هو أمر غير مساعد البتّة. هنا قد نتحوّل إلى مجرّد حيوانات خالية من المشاعر العميقة، ونتّخذ نمط العيش البهيميّ.

لا شكّ بأنّ في العلاقات المسؤولة بين الجنسين هناك بعض وجع الرّأس. المطالبة والتّوقّعات قد تجلب بعض الهموم. فهذه هي طبيعة أن تكون مسؤولًا عن الطّرف الآخر، ولأنّ حياتنا ليست مجرّد استلقاء في الفراش. هناك العديد من الشّؤون الصّحّيّة والعائليّة والمهنيّة والاجتماعيّة التي تلقي بظلالها على حياتنا وتحتّم علينا الاستعانة بالآخرين، ومن الطبيعّي أن نتوقّع الحصول على هذه المساعدة من أقرب النّاس إلينا.

 

هنا ستأتي كلّ هذه الهموم إلى فراشنا وتشاركنا أوقات متعتنا. سرعان ما تطالب العلاقة العابرة بما هو أكثر، لتبدأ جولة أخرى من المباحثات والمفاوضات. لا تنحصر العلاقة في تبادل منفعة واحدة.

الأشدّ حاجة هنا سيدخل في مفاوضات غير مباشرة لتقديم المتعة مقابل المساعدة. شيئًا فشيئًا قد يفقد هذا الجنس الكثير من متعته الخالصة، حين يتحوّل إلى اتفاقيّة زواج.

وهذا الزّواج لن يقوم على أساس ذلك الحبّ المنشود. فعند أوّل لحظة يلوح فيها شريك الرّوح المزعوم خارج نطاق الزّواج، سيتمّ نقض الاتّفاق الأوّل فيه وهو ما يعبّرون عنه بالإخلاص لشريكٍ واحد. بسرعة يُدمّر هذا الزواج، ليدخل الطّرفان في معركة الطّلاق المشؤومة.

في المقلب الآخر حيث بقي بعض الضّوابط، حين نفكّك في فكرنا وآمالنا بين الزّواج والحبّ، ولا نحتّم ضرورة الحبّ المنشود في الزّواج، قد نكون أمام فرصة مهمّة للوصول إلى بعضّ هذا الحبّ.

 

فنحن في أعماقنا نصبو إلى الحبّ الصّافي، وإن كان معظمنا غير مستعدّ له لا بفكره ولا بعمله ونفسه. أكثر النّاس يريدون هذا الحبّ رغم أنّهم لا يعرفونه؛ وسرّ ذلك أنّ الله قد جعل هذا التّوجّه كامنًا في فطرتهم المحجوبة والمنفكّة عن تفكيرهم ورؤيتهم للحياة. أضف إلى ذلك أنّه لا يوجد في أدبيّاتهم وثقافتهم حديث أو خطاب جدّيّ وعميق يمكن أن يعرّفهم على هذا الحبّ المنشود. غالبًا ما يتمّ تفسير الحبّ الأصيل بصورة سطحيّة، أو يجري تنزيله إلى مستوى الجنس.

التّوق إلى هذا الحبّ العميق الصّافي هو الذي ينغّص على جميع العلاقات بين الجنسين، سواء كانت التزامًا حقيقيًّا أو شيئًا عابرًا. وسبب ذلك أنّ النّاس يحصرون الحبّ في نطاق هذا النّوع من العلاقات. ليس خطأً أن نتوقّع عيش تجربة الحبّ الأصيل في علاقة بين جنسين، لكنّ الخطأ هو أن نحصره فيها. الحصر يعني عدم القدرة على التّفريق بين الجنس والحبّ. وهذا ما نعبّر عنه بهيمنة الشّهوة والنّزوة والمصلحة. والحبّ أبعد ما يكون عن هذه الأنانيّات والرّغبات.

في ثقافتنا الإسلاميّة نكتشف أنّ العلاقة بين الجنسين ينبغي أن تقوم على تبادل المنافع واستجلاب المنافع المشتركة؛ حيث ينتهي الأمر حين تتوفّر أسبابه إلى تشكيل الأسرة. وفي ظلّ هذه العلاقة، من المرجّح أن نجرّب الحبّ. فرصتنا في الوصول إلى مستوى من الحبّ الصّافي تصبح أوفر بكثير.

 

حين ننظر إلى الجنس الآخر كمشروع بناء أسرة فيها الكثير من المنافع للطّرفين، سواء على المستوى المعيشيّ أو الجنسيّ أو العاطفيّ والنفسيّ وغيره، فنحن نفكر بعقلانيّة. والعقلانيّة دائمًا مصيبة وتؤتي أكلها. يجب أن ننظر إلى الآخر عند أوّل لقاء فيما إذا كان قادرًا على توفير هذه المنافع على المدى البعيد. وهذا هو الالتزام. هذا في الوقت الذي لا مانع من أن نكون في قرارة أنفسنا راجين بأنّنا سنكتشف الحبّ أو ندرك بعضًا منه.

ومثل هذا التّوقّع المتواضع بحسب الظّاهر يكون أرضيّة مناسبة للسّير نحو الحبّ المنشود. فنحن لا نضغط باتجاه الحصول على الحبّ ولا نصرّ على الآخر أن يحبّنا، بل نبني معه حياةً قائمة على الالتزام المتبادل الواضح الشّروط والحقوق، وفي أنفسنا أمل بأن ينبعث الحبّ في ظلّ هذا الالتزام.

ولأنّ الحبّ هنا متحرّر من مطالباتنا وغير مكبّل بتوقعاتنا، فالأرجح أنّه سيجد لنفسه طريقًا يسيرًا لكي ينبعث من قلوبنا. فلا شيء يمكن أن يقتل الحبّ أو يسدّ طريقه مثل المطالبة به واللّجاجة فيه. الحبّ أمرٌ عفويّ، بل هو شيءٌ خارج عن الإرادة. يمكن أن نعتبره أحيانًا رزقًا إلهيًّا خالصًا، بمعنى أنّه بيد الله تمامًا. فالله هو مالك القلوب، وهو الذي يحبّب هذا إلى ذاك. وحين نترك صاحب القلب يتصرف بملكه كيفما شاء، فإنّنا نكون قد أدركنا القاعدة الأولى للحبّ.

وحين نتصوّر أنّنا نصنع الحبّ ونستحصله، فنحن أبعد ما يكون عن الحقيقة.

 

نحن قد نعلم ببعض شروط الحبّ، لكن للحبّ سر أعمق. نقول بأنّ الحبّ لا يكون إلا للكامل أو الأكمل، لكن تشخيص الكامل والأكمل ليس بهذا اليسر الذي نتصوّره. ولأنّ الكمال الحقيقيّ لأيّ إنسان لا يتحقّق ولا يتحدّد إلا في النّهاية وعند المصير، فقد يكون هذا الشّخص على درجة من الكمال الآن، وبعد مدّة يفقد هذا الكمال؛ كما إنّ ذاك الشّخص قد يكون فاقدًا لكمال ما ثم يدركه بعد مدّة. والحبّ يتعلّق بالحقيقة والمصير والباطن الذي يصعب على أكثر النّاس التّوصّل إليه.

إنّ عالم الحبّ هو عالم الأرواح في حقيقتها النّهائيّة وما تصير إليه. تتجاوز الأرواح كلّ القيود والحدود، وتلتقي في عالمها. فإن كان هناك تعارفٌ وانسجام حصل التّآلف والانجذاب في عالم الدّنيا، وإن لم يعلم أصحابها سرّ ذلك.

روح كلّ إنسان تحكي عن مصيره النّهائيّ وشاكلته الأبديّة. لا نعلم لماذا نحبّ هذا الشّخص رغم أنّنا لا نراه على الكمال المطلوب. لا ندري أنّ ذلك يرجع إلى اتّصالنا بروحه التي هي في الكمال المطلوب. لعلّ هذا ما أراد الله تعالى أن يخبرنا به في قوله عز مِن قائل: {عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون‏}.[1]

لأجل ذلك يجب أن نترك الخبير بالقلوب يتصرّف بها كيفما شاء ولا نتدخّل في تدبيره. وهذا يعني ألّا نطالب أحدًا بأن يحبّنا ولا نفرض حبّنا على أحد. ما يقع في نطاق تصرّفنا هو أن نتحبّب ونتودّد، بمعنى أن نقوم بأفعال المحبّين ونتصرّف كما يتصرّفون، لكن أمر القلب والحبّ لن يكون بيدنا يومًا.  

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. سورة البقرة، الآية 216.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد