مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

في علاقة الإنسان بالزمان... يحصل الكثير من الفرق

هناك أشخاص عالقون في الماضي إلى حدّ القطيعة ليس مع المستقبل فحسب، بل مع الحاضر أيضًا. وهناك أشخاص يصح أن نقول إنّهم عالقون في المستقبل إلى حدّ القطيعة ليس مع الماضي فحسب، بل مع حاضرهم أيضًا! وهناك من يعيش اللّحظة فلا ينظر إلى الماضي ولا إلى المستقبل.

يختلف النظر إلى الزمان باختلاف زاوية النظر. إن كنت تنظر إلى نفسك فهذا شيء يختلف عن النظر إلى مجتمعك. قلة هم أولئك الذين يستطيعون النظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل بالقوة نفسها. هؤلاء يمكن أن نطلق عليهم عنوان "الذين يحيطون بالزمان". ومثل هؤلاء لن يقعوا تحت تأثير الزمان إلا بما شاؤوا.

 

الاستغراق في الماضي ينشأ من اعتباره أفضل من الحاضر؛ ممّا يؤدي إلى النظر بتشاؤم إلى المستقبل. فمن وجد ماضيه أفضل من حاضره يصعب أن ينظر بتفاؤل إلى مستقبله. والاستغراق في المستقبل غالبًا ما ينشأ جراء الاعتقاد بوخامة الماضي، فيكون الحاضر عند هؤلاء غير مرغوب لأنّه سرعان ما يتحول إلى ماضٍ.

للنظر إلى المستقبل حسنات، لأنّه يحرر الإنسان من الكثير من القيود. فالمستقبل بحد ذاته أمرٌ لم يحدث بعد، ممّا يعني أنّنا منفتحون على احتمالاتٍ لا تُحصى. وهذا ما يجعلنا نفكر بالإبداع دون خوفٍ أو وجل. فالمستقبل هنا أمرٌ نحن نصنعه بالكامل أو هكذا نتوهم. لكن نفس هذه الفكرة محرِرة.

 

وللنظر إلى الماضي حسناته، حيث يمكن لنا أن نجد الكثير من الحكمة، خصوصًا إذا عرفنا أنّ الحاكم على الحياة هو مجموعة من السنن والقوانين التي تنطبق على كل زمان ومكان؛ فتكون الجزئيات والمتغيرات تحت حيطتها تنتج وفق معادلاتها.

المشكلة هي في الاستغراق، سواء في الماضي أو الحاضر. وهي مشكلة قلما ينتبه إليها أصحابها. وبمقدار الاستغراق تكون المشكلة أيضًا. يجب أن نكتشف فيما إذا كنا مستغرقين وبأي مقدار، لأن الانعتاق من قيود الزمان هو الذي يجعلنا ننظر إلى الماضي على طريق صناعة المستقبل في الزمن الحاضر.

 

بمعزل عن العوامل النفسية الناشئة من تجاربنا الخاصة (التي تشمل إخفاقات مؤلمة) فإنّ استغراقنا في الماضي أو المستقبل يعني أنّنا لم نعُد قادرين على تحديد دورنا وتأثيرنا بالشكل المطلوب.

 لا شك بأنّ هناك علاقة بين أحداث العالم وإرادة الإنسان، فلا يمكن لنا أن نتحرر بالكامل من وقائع الزمان، سواء كانت في الماضي أو الحاضر أو حتى المستقبل! لكن تشوُّش الصورة وغموضها يجعلنا عاجزين عن تحديد ما يمكن أن نقوم به ونحققه. وهنا تكمن المشكلة.

 

إن كنّا نرى الحاضر استمرارًا لماضٍ كئيب، فالأرجح أنّنا سنستسلم لهذه الكآبة، مثلما حصل للذين اكتشفوا أنّ في العرق العربي خصلة تجعله غير قادر على التقدم والتطور. سيقولون إنّنا محكومون لهذه الخاصية الجينية التي تفرض علينا هذا النوع من السلوك الرجعي. ولا شك بأنّ هناك اختلافًا واضحًا بين الشعوب في علاقتها بالتطور.

وإن كنّا نرى أنّه لن يكون هناك ما هو أفضل من الماضي، فهذا يعني أنّنا سنسير القهقرى دون أن نشعر؛ يدفعنا لذلك هذا الحنين والنوستالجيا.

 

نظرتنا إلى الزمان تنبع من فهمنا للماضي. لكنّ جزءًا من هذا الفهم يرتبط بالمستقبل. فلا ننسى أنّ الماضي لم يكن مجرد نقطة أو لحظة في الزمان، بل كان امتدادًا زمانيًّا فيه ماضٍ ومستقبل. ولا يمكن أن نفهم الماضي إلا إذا فهمنا ما كان فيه من مستقبل. 

النظر إلى الماضي واختصاره بفكرة واحدة، كأن نقول إنّه كان مجيدًا وعظيمًا، هو أمر غير دقيق البتة. ما تحقق من أمجاد في الماضي السحيق كان بفعل حركة امتدت على الزمان حيث تطلع صانعو ذلك المجد إلى المستقبل، فانتقلوا من وضعٍ وخيم إلى وضعٍ جميل. 

 

والـمُلفت أيضًا أنّ كلّ ماضٍ مجيد كان يتطلع إلى زماننا المستقبل أيضًا. فلا يوجد حالة حيث ينقطع فيها الماضي عن المستقبل البعيد اللامتناهي.

إنّ المشكلة الأساسية تكمن في أذهاننا وفي طريقة فهمنا ونظرتنا إلى الزمان. فلا ننسى أنّه لو كان هناك ماضٍ مجيد، فذلك لأنّ أهله كانوا ينظرون إلى أبعد من زماننا الحاضر!

الناظرون إلى المستقبل يختلفون فيما بينهم من حيث قوة النظر والتوقع. هناك من ينظر إلى الأفق البعيد الذي لا يحدّه زمان، فلا يهمه إن تحقق ما يصبو إليه غدًا أو بعد مئة سنة. المستقبل هو المستقبل المجرد عن المدة والتحديد. وهؤلاء هم الأقدر على التحرر من قيود الماضي والحاضر، لأنّهم لم يضعوا قيودًا أو حدودًا أمام رغباتهم. 

 

وحين ننظر إلى المستقبل ونستحضر معه عقبات الماضي، فإنّنا نقيد أنفسنا ونحدّها. وهناك تكمن مشكلة الشيوخ الذين لا يتمكنون من التخلص من إخفاقات الماضي. وهذا هو الفارق الجوهري بين الشباب والشيوخ. الشباب ليس لديهم ذلك الكم من الإخفاقات التي حملها الشيوخ فوق ظهورهم وهم يتطلعون إلى المستقبل. تصبح هذه الإخفاقات العالقة في الذهن أثقالًا تجعل رحلتهم نحو المستقبل مضنية.

بقي أن نشير إلى مفهوم الحاضر. فالحاضر ليس هو اللحظة التي نعيشها بل هو الأفق الذي نراه متحققًا أو ماثلًا أمام أعيننا، حتى لو امتدّ لعدة سنين. هناك أشخاص لا يقدرون على العيش إلا في صقع الحاضر حيث يحتاجون لإكمال مسيرهم إلى تصور واضح عن المستقبل. وبمقدار ما يحصل لهم من تصورٍ دقيق عن هذا المستقبل يكون حاضرهم. هؤلاء منقطعون عن المستقبل، لأنّ المستقبل في جزءٍ كبيرٍ منه هو المجهول. وهؤلاء يجعلون من مستقبلهم حاضرًا عبر تصويره في خيالهم في أدق تفاصيله. هذا لن يبقى مستقبلًا أبدًا.

 

العمل للمستقبل يعني السير نحو الكثير من المجهول مع أملٍ وتفاؤل. يصعب أن يعمل الإنسان للمستقبل وهو غير متفائل. والذي يصر على تصور المستقبل بشكل كامل لا يعرف ما هو المستقبل.

يوجد أشخاص يعملون للمستقبل والماضي يهيمن عليهم، إنّهم أولئك الذين يتقدمون خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، فيعلقون في الحاضر. ولأنّ غيرهم يسير خطوات متقدمة، فسوف يتخلفون عن ركب التقدم. وفي صراع الأمم، المتخلف مهزومٌ حتمًا، حتى لو كان صاحب حق.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد