مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

عوامل نجاح الإبداع والأعمال والكبرى

الإبداع سرّ النجاح في الأزمات وحين تشح الموارد وتضيق السبل. والأعمال الكبرى عماد المجتمعات القوية التي تسعى لتحقيق قفزات نوعية في حياتها. وحين يجتمع الإبداع مع ضخامة العمل، فهذا يعني التفوق والعظمة.

لا مناص لأي مجتمع ينشد الحرية والاستقلال والعزة من أن يبني سكة الأعمال العظيمة لأنها أفضل تعبير عن المسارعة. ففي ظل الحركة العامة السريعة يتحرّر المجتمع من أزماته والضغوط الخارجية؛ أما التعويل على عامل الزمن بأنّه سيغير كل شيء لا يدل إلا على جهل صاحبه بما يجري في العالم.

 

شاهدت بعض المدراء والمسؤولين الذين يختصرون سر النجاح بقدرتهم على تيسير أمور كل الإدارات والمؤسسات العاملة تحت أيديهم. فما دام الجميع راضيًا أو يحصل على حصته من الجبن، فما علينا سوى أن ننتظر الأيام (والسنين) حتى نراكم النتائج والإنجازات لتكون عاملًا مقنعًا للجميع بأن هذه هي الطريقة السليمة لإدارة الأمور. مثل هذه القيادة هي التي تتطلع إلى الوراء من أجل أن تستلهم للمستقبل. فالمستقبل عندها ليس سوى تراكم إنجازات الماضي. والنجاح عبارة عن إثبات النجاح لمن يشكك بالإنجازات.

يبدو أنّ الدافع الأساسي وراء هذه الطريقة من إدارة الأمور ـ والتي تتجنب الإبداع والأعمال الكبرى ـ يرجع إلى الخوف والضعف الذاتي؛ الخوف الذي يدفعها دومًا لإثبات النجاح من خلال المراكمة البطيئة، والضعف الذي لا يمكّنها من أن تسهر على الأعمال الكبرى.

 

هناك ثلاثة عوامل أساسية وراء الإبداع والأعمال الكبرى في تجربة أي مجتمع أو أمة:

الأول: وجود أصحاب همم عالية.

الثاني: الاستبداد القيادي أو انحصار السلطة.

الثالث: البيئة والنظام الملائم.

 

وقد تجتمع هذه العوامل في لحظة معينة أو يتوافر أحدها. فإذا وُجد الشخص الذي يمتلك همة عظيمة سوف نشاهد ثمار ذلك بصورة أعمال كبرى تمنح مجتمعها قيمة مضافة بحسب نوعية العمل. هوندا كان مهندسًا يابانيًّا واحدًا، تحدّى النمط السائد في صناعة المحركات الكبرى للسيارات، وبذلك منح هذه الصناعة في بلده امتيازًا مهمًّا في إنتاج المحركات الصغيرة ذات الفعالية الكبيرة، ما زالت اليابان تقطف ثماره لحدّ الآن. ونيكولاس حايك استطاع لوحده أن ينقذ صناعة الساعات السويسرية بعد أن كانت تترنح وتلفظ أنفاسها الأخيرة بفعل اختراع الساعات الرقمية. أمّا الإمام الخميني فقد كان أعلى نموذج للرجل الأمة الذي استطاع أن يبعث الحياة في شعب كان يعيش على هامش التاريخ ونتاجه يخدم أعداءه.

 

أمّا استبداد السلطة واستئثارها بالإمكانات فمن شأنه أن يتجاوز البيروقراطية القاتلة واللجان اللامتناهية التي تقبر القرارات مهما كانت مهمة ومفيدة. فقد يطلب زعيم واحد، في لحظةٍ ما، إنجاز مشروع تبقى مفاعليه إلى مئات السنين. مثل بناء سور الصين العظيم وعشرات الاختراعات التي حصلت في ظل حكم هتلر أو ستالين أو بعض رؤساء العالم الغربي في أزمنة الحروب.

وما دام القائد مصرًّا على إرضاء الجميع أو إشراكهم في عملية صنع القرار أو التخطيط، فعلى الأغلب لن يتمكن من تحقيق عمل كبير واحد.

 

ويبقى العامل الأخير وهو وجود بيئة أو نظام (system) يتلائم مع ذهنية الإبداع وإنجاز الأعمال الكبرى، حيث يحصل أصحاب الهمم والمبدعون على كل الإمكانات والظروف الملائمة لإنجاز الأعمال العظيمة. فلا يوجد بيروقراطيات قاتلة ولا لجان مقررة ولا قوانين معرقلة ولا دهاليز لا متناهية ولا رجال دين مكفّرة ولا قوى محافظة، بل الأغلبية تتطلع إلى الأمام ولا يحتاج المبدع إلى انتظار سنوات وسنوات لأجل الحصول على رخصة يضيع معها مشروعه وتنطفئ شعلة حماسه.

ويمكن اعتبار التجربة الصينية اليوم أنموذجًا بارزًا للاستبداد الإبداعي حيث يؤمن الحزب الوحيد الحاكم بضرورة رعاية التطور الصناعي وتحقيق التفوق العالمي؛ كما أنّ المجتمعات الغربية أوجدت بيئة ومنظومة متناسبة إلى حدٍّ كبير مع ذهنية الإبداع.

 

أما نحن فعلقنا وسط عقلية الإرضاء والمشاركة والمحافظة والانتظار والمحاباة، وجعلنا من ذلك نهجًا راسخًا لإدارة الأمور، فصرنا في أسفل سلّم الأمم، لا نقدّم للعالم أي شيء يمكن أن تحتذي به، وإن كنّا نملك من القدرات الكامنة ما لا يمكن أن نجده في أي مكان آخر.

وهكذا، سنبقى منتظرين للشخص الذي يأتي ليخلصنا ويخرجنا من واقعنا المزري؛ فهذا ما اعتدنا عليه على مدى مئات السنين؛ حيث يمكن أن يظهر على رأس كل قرن من يمتلك همّة أمّة، فيحفظ لنا بعض ما يمكن أن نتمسك به كأملٍ للمستقبل.

 

الاستبداد القيادي والإداري لا يحتاج إلا إلى حظ؛ فلا أحد يعلم أين ومتى سيخرج هذا الزعيم المستبد الذي يحب العظمة والاقتدار لشعبه؛ ولكن لا شك بأنّ مثل هذا هو أفضل بكثير من الفوضى والضياع والعبثية والسطحية.

إنّ ظهور أصحاب الهمم العالية والعزائم الكبرى أمرٌ نادرٌ أيضًا، وبالرغم من أهميته الفائقة، لكن بات يومًا بعد يوم أضعف مما كان عليه مقارنة بالأمم التي تتمكن من خلق البيئة والنظام المناسب للتفوق والإبداع.

فما هي العوامل التي تؤدي إلى إيجاد هذا النوع من الأنظمة؛ وهل يمكن للقائد الحريص أن يوجده في ظل المشاركة الواسعة للآخرين في قيادته؟ 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد