مقالات

ضرورة التّربية

الشيخ باقر شريف القرشي

 

التربية ضرورة من ضروريات الحياة، وشأن أصيل من شؤون الإنسان بها يكسب مقوماته النفسية والاجتماعية، وبها يتحقق امتيازه عن سائر الحيوانات، فهي ضرورة للفرد والمجتمع على حدّ سواء. يقول بعض المربين:

«التربية بالنسبة للفرد عملية تطبيع اجتماعي، ينتج عنها إكسابه الصفة الإنسانية التي يتميز بها عن سائر الحيوانات الأخرى، فنحن نعلم أن الفرد يرث عن والديه وأجداده أساسه البيولوجي من لون الشعر والعينين وطول القامة إلى غير ذلك من الصفات الجسمية، ولكنه يكسب المكوّنات الاجتماعية والنفسية لشخصيته عن طريق التربية، ولهذا كان اكتساب الصفات الإنسانية عملًا أساسًّيا تقوم به التربية... وبذلك تكون التربية عملية اجتماعية ضرورية للفرد كما هي ضرورة للمجتمع على حدّ سواء...» «1».

إن التربية تكسب الإنسان المقومات الفردية، والعادات التي يبقى متأثرًا بها طوال حياته، وقد ذهب بعض علماء النفس إلى أن الطفل في أصغر ما يلزمه من العادات، وفي أهم الخصائص العقلية والخلقية، وفي الموقف العام الذي يقفه من الناس، وفي وجهة النظر العامة التي ينظر بها إلى الحياة أو العمل في كل هذه الأشياء مقلد إلى حد كبير، ولكنه في أغلب الحالات يكون لا شعوريًّا، فإذا منح الطفل بتقليده الأشخاص المهذبين ظل متأثرًا بأخلاقهم وعواطفهم، وإن هذا التأثير في أول الأمر يعتبر تقليدًا، ولكنه سرعان ما يصبح عادة، والعادة طبيعة ثانية، والتقليد هو أحد الطريقين اللذين تكتسب بهما الخصائص الفردية، وتتكون بهما الأخلاق الشخصية «2».

التربية عنصر من عناصر الحياة، ومبدأ أساسي للتكامل الشخصي لأنها تقوم بتكييف الإنسان، وتطويره ونضوجه، يقول بعض الباحثين في الشؤون التربوية:

«إن التربية ضرورة للفرد ذاته كما هي ضرورة للمجتمع، ذلك لأن الفرد في بدء حياته لا يعتبر إنسانًا اجتماعيًّا ناضجًا، إنه كائن حي من الناحية البيولوجية، كائن غير ناضج، فيتعذر عليه العيش في المجتمع والتكيف معه.

وهنا تظهر أهمية التربية في مساعدته على تنمية فرديته وترقيتها، ومساعدته على تنمية قدراته واستعداداته، ومهارته إلى أقصى ما هو مهيأ له، وعلى اكتساب الصفة الاجتماعية للعيش في المجتمع، والتكيف معه والانتماء إليه، وعلى هذا فالتربية تهم الفرد كما تهم المجتمع تمامًا... إنها ضرورة اجتماعية، وضرورة فردية..» «3».

التربية هي الوسيلة الوحيدة التي يملكها الإنسان لتحقيق نضوجه، ورفع مستواه الفردي والاجتماعي، ومن ثم كانت ضرورة لازمة للحياة، وعنصر مهم في كيان الفرد والمجتمع....

 

الأهداف التربوية

وتحمل التربية أهدافًا خطيرة، ومسؤليات اجتماعية كبيرة، وقد عني الأخصائيون في بيانها، ولكنهم اختلفوا في تحديدها، والسبب في ذلك يرجع إلى اختلاف وجهات نظرهم فيها، فبعضهم قصر نظره على الأهداف الروحية والبعض الآخر نظر إلى الأهداف المادية، وثالث نظر إلى الأهداف الاجتماعية، ورابع نظر إلى النمو الفردي والتكوين الشخصي، وفيما يلي عرض موجز لذلك:

 

أ - الأهداف الروحية:

وذهب بعض المربين الإسلاميين إلى أن الغرض الأساسي من التربية وطلب العلم إنما هو تطهير النفس، وصفاء الذات، والاتصال باللّه تعالى الذي هو من أسمى الغايات وأنبل المقاصد يقول الغزالي: «أيها الولد: كم من ليال أحييتها بتكرار العلم، ومطالعة الكتب وحرّمت على نفسك النوم لا أعلم ما كان الباعث فيه، إن كان نيل غرض الدنيا، وجذب حطامها، وتحصيل مناصبها، والمباهاة على الأقران والأمثال فويل لك ثم ويل لك، وإن كان قصدك إحياء شريعة النبي صلّى اللّه عليه وآله، وتهذيب أخلاقك وكسر النفس الأمارة بالسوء فطوبى لك ثم طوبى لك..» «4».

وذهب بعض المربين الإسلاميين إلى أن تطهير النفس من العيوب شرط أساسي لتلقي العلوم، ولذا كان من واجب المعلم أن لا يقبل طالبًا حتى يختبره في أخلاقه. فإن وجده مهذب الأخلاق اشتغل بتعليمه. وإلا منعه أشد المنع، خيفة من أن يستعين بالعلم على الفساد فيعود الضرر من جراء ذلك عليه وعلى غيره... «5».

وقال (فروبل) إن التربية ينبغي أن تقود الإنسان إلى معرفة نفسه الداخلية، وتقدير الطبيعة، والثقة بوحدانية اللّه، ويجب أن ترفع الإنسان إلى الحياة الطاهرة المقدسة الناشئة عن معرفة اللّه والطبيعة، والنفس الإنسانية «6» وأكد (فروبل) في كثير من بحوثه على ذلك قال: «إن الغرض من التربية حياة طاهرة مقدسة، ملؤها الإخلاص والطهارة» «7».

وقد اتفق كبار المربين على أن التعليم الذي لا يؤدي إلى الكمال وتهذيب النفس لا يستحق أن يسمّى تعليمًا، ويقول (ويلولا): «إن الغرض من التربية هو إصلاح ما أفسده آباؤنا، وذلك بمعرفتنا للّه حق المعرفة، ومحبتنا له والتزامنا طريقه بفضل اكتسابنا للفضائل..».

وأكد (جون لوك) على الجانب الأخلاقي في التربية، فقال: «إن الفضيلة هي أهم ما تهدف إليه التربية».

وهذه الآراء قد حصرت أهداف التربية في الناحية الروحية والأخلاقية ولم تعن بغيرها من أنواع التربية.

 

ب - الأهداف المادية:

ويرى فريق من المربين وغيرهم أن الغرض من التربية يجب أن يكون لإعداد الناشئين لاكتساب العيش، ويسمى ذلك عند بعض المربين من الإنجليز «غرض الخبز والزبد».

وهذا الرأي له قيمته، لأن الانسان - بحسب حبه للبقاء - فهو مرغم على السعي لاكتساب وسائله، وليست هناك وسيلة أهم من جلب القوت، واكتساب الرزق اللازم لبقائه وبقاء من يعول به «فإن تعليم الحرفة أمان من الفقر». وليس للغني أن يطمئن إلى ثروته، ويترك الحرفة والصناعة، فقد جعل اللّه الأرض ذلولًا، وأمرنا بالسعي في مناكبها والأكل من رزقه وعلينا أن نعلّم أبناءنا كيف يضربون في الأرض، لاكتساب الرزق «8».

وهذا الرأي ناظر إلى الناحية المادية ولم يهتم بغيرها من النواحي التربوية.

 

ج - الأهداف الاجتماعية:

ونظر بعض المربين إلى الناحية الاجتماعية فأكد على رعايتها والاهتمام بها يقول (جان بياجه): «إن أهم أهداف التربية تحقيق الازدهار التام لشخصية الإنسان. ودعم حسن الاحترام لحقوق الغير، وللحريات الأساسية ، كما يجب على التربية أن تعزز روح التفاهم، والصداقة بين كافة الشعوب، وكافة الجامعات العنصرية، أو الفئات الدينية، وأن تساعد في تنمية النشاط الذي تقوم به منظمة الأمم المتحدة للحفاظ على السلم..» «9».

وأكد ذلك (كوندرسيه) فقال: إن التربية يجب أن تعمل أولًا على أن تتيح لكل فرد من إتقان مهاراته، وجعله قادرًا على القيام بالمهام الاجتماعية التي تطلب منه، ونمو قدراته إلى أقصى حد، كما يجب أن تعمل على بث روح المساواة بين أفراد الشعب، وإذا تحقق ذلك فقد حققت التربية المساواة السياسية التي يقرها القانون، وأما الهدف الاجتماعي من التربية فيعبر عنه توجيه التعليم بشكل ينتج عنه ارتقاء الصناعة، وتقدمها بحيث تزداد سعادة المواطنين، ويتمكن أكبر عدد من الناس من القيام بالمهام الضرورية للمجتمع.

وقد أعلن الإسلام أغلب هذه الأمور واعتبرها من العناصر الأساسية في حقوله التربوية...

 

د - النمو الفردي:

ويرى بعض المربين أن الهدف من العملية التربوية هو النمو المتكامل للفرد حسب ما تؤهله استعداداته، وقدرته، ومن بين الوسائل تحقيق التراث الثقافي الذي يجب أن ينتظم سيكولوجيا لكي يناسب مراحل النمو المختلفة «10» وأضاف بعض المربين إلى ذلك العناية بتقويم الأخلاق، وحسن السلوك والنشاط في العمل، وقوة الإرادة، والاعتماد على النفس، وتهذيب الغرائز واحترام الناس، والاعتراف بحقوقهم، وحسن علاقة الفرد بالمجتمع، والعمل على إصلاح الفاسد، وتقديم أحوال بيئة الشخص، والسعي إلى رقي المجتمع الإنساني «11».

ويرى أفلاطون أن من أغراض التربية أن نطلق سراح الأسرى الجهلة ونحررهم من أغلالهم، ونخرجهم من عالم الظلمات إلى عالم النور، ومن الكهوف والمغارات السفلية إلى عالم الشمس والحرية، وأن نرفع أرقى الطباع النفسية إلى منزلة تفكر في عمل خير شيء في الوجود «12».

 

أهداف أخرى

وأدلى فلاسفة التربية ببعض الأهداف التي توجب النمو الفردي، والتكوين الذاتي. وأهمها:

1 - الصحة

2 - التكليف الانفعالي والاجتماعي

3 - معرفة العالم الطبيعي

 

وهناك طائفة أخرى من الفلاسفة حصروا أهداف التربية في التعليم الثانوي بعشرة أهداف وهي:

1 - تنمية الطرق الصحيحة للتفكير

2 - غرس العادات المفيدة التي تتعلق بالعمل والدرس

3 - تنمية الاتجاهات الاجتماعية

4 - إكساب الأفراد مجموعة من الميول المناسبة

5 - تنمية الذوق الأدبي وغيره من النواحي الجمالية

6 - تنمية الحاسة الاجتماعية

7 - تنمية توافق فردي اجتماعي

8 - إكساب الفرد المعلومات المهمة

9 - تنمية الصحة الجسمية

10 - تنمية فلسفة ثابتة للحياة «13»

ــــــــــــــــــــــــ

(1) الأسس الاجتماعية للتربية: ص 4 - 5.

(2) علم النفس في الحياة.

(3) التربية والإرشاد: ص 10 - 11.

(4) أيها الولد: ص 94.

(5) آداب المريدين لابن عربي: 2 / 93.

(6) روح التربية والتعليم: ص 21.

(7) تربية الإنسان.

(8) النهج الحديث في أصول التربية، وطرق التدرس: 1 / 33.

(9) حق الناس في التربية والتعليم، مأخوذ من المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

(10) الأسس الاجتماعية للتربية: ص 65.

(11) النهج الحديث في أصول التربية: 1 / 9.

(12) الجمهورية.

(13) علم النفس والتعليم: ص 49.

 

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد