مقالات

شاعر الله!

الشيخ علي الكوراني

 

أبرز ما يُعرف به الإمام زين العابدين «عليه السلام»: تَأَلُّهُهُ وتَعَبُّدُهُ وحُبُّهُ لله تعالى، حتى سميَ: (شاعر الله) وسميت صحيفة أدعيته: (زبور آل محمد «صلى الله عليه وآله»)، مقابل: (زبور آل داود «عليه السلام») الذي أنزله الله عليه، وكان فيه مناجاة وأدعية!

 

فالإمام «عليه السلام» متألهٌ.. كل حبه لربه، وكل فكره وذكره وخشوعه ودموعه، في يومه وليله، وحله وترحاله.. وهو مع ربه عز وجل في غاية الأدب، ينتقي في تصرفاته الحركة والسكون، لأنه يعيش في محضر ربه عز وجل.

 

وهو شاعر الله.. لربه كل مدائحه وقصائده، فهو ينتقي للحديث عنه أحسن الكلام. أما حديثه معه فيخصه بأبلغ المعاني وأعلى الكلام!

 

إلى الآن لم أرَ دراسةً في تألُّه الإمام «عليه السلام» وغيره من المعصومين «عليهم السلام»، تكشف أبعاد حضور الله تعالى في فكرهم وشعورهم وعملهم، ونوع جديتهم وصدقهم وعمقهم في تعاملهم مع ربهم عز وجل. ومن أغنى المواد لهذه الدراسة أدعية الإمام زين العابدين «عليه السلام»، بشفافيتها الخاصة ونسيمها السماوي!

 

وقد أفاض الرواة السنة والشيعة في وصف ميزات شخصيته وروحيته «عليه السلام». منها خشوعه في صلاته وأنه: (كان إذا توضأ للصلاة اصفرَّ لونه فيقول له أهله: ما هذا الذي يغشاك؟ فيقول: أتدرون من أتأهب للقيام بين يديه). (الإرشاد / 255، والمناقب: 3 / 289، وتهذيب الكمال: 20 / 382، وسير الذهبي: 4 / 386، وغالب من ترجم له «عليه السلام».

 

وفي نهاية ابن كثير: 9 / 123: (إذا قام إلى الصلاة ارتعد من الفَرق، فقيل له في ذلك فقال: ألا تدرون بين يدي مَنْ أقوم ولمن أناجي؟!). وفي الكافي: 3 / 300، أنه إذا شرع فيها: (قام كأنه ساق شجرة، لا يتحرك منه شيء إلا ما حركته الريح منه).

 

ورروا له قصصاً وهو يصلي، منها أنه وقع حريق في بيته وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله النار! يا ابن رسول الله النار! فما رفع رأسه! (فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟! (شغلك عنها) قال: ألهاني عنها النار الأخرى). (تاريخ دمشق: 41 / 377، ونهاية ابن كثير: 9 / 123).

 

وسقط طفله في البئر وهو يصلي فلم يقطع صلاته ولا اهتم بصراخ النساء، ولما فرغ من صلاته جاء إلى فم البئر فارتفع الماء والطفل على وجه الماء! فتناوله وقال لأمه: (خذيه يا ضعيفة اليقين). (الثاقب في المناقب / 149). ورووا عن خشوعه عند التلبية: (سفيان بن عيينة قال: حج زين العابدين فلما أحرم واستوت به راحلته اصفرَّ لونه وقعت عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبي! فقيل ألا تلبي؟ فقال: أخشى أن يقول لي: لا لبيك ولا سعديك. فلما لبى خرَّ مغشياً عليه وسقط عن راحلته). (عوالي اللئالي: 4 / 35، وتاريخ دمشق: 41 / 378).

 

وفي أمالي الطوسي / 636: (بسنده عن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: إن فاطمة بنت علي بن أبي طالب «عليه السلام» لما نظرت إلى ما فعله ابن أخيها علي بن الحسين «عليه السلام» بنفسه من الدأب في العبادة، أتت جابر بن عبد الله الأنصاري فقالت له: يا صاحب رسول الله! إن لنا عليكم حقوقاً، وإن من حقنا عليكم إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه الله وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين، قد انخرم أنفه وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه إدآباً (إتعاباً) منه لنفسه في العبادة! فأتى جابر بن عبد الله باب علي بن الحسين... فدخل عليه فوجده في محرابه قد أنضته (أضعفته) العبادة فنهض عليٌّ «عليه السلام» وسأله عن حاله سؤالاً حثيثاً ثم أجلسه بجنبه، فأقبل جابر عليه يقول له: يا ابن رسول الله أما علمتَ أن الله إنما خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟!

 

فقال له علي بن الحسين «عليه السلام»: يا صاحب رسول الله أما علمت أن جدي رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولم يدع الاجتهاد! وقد تعبد بأبي هو وأمي حتى انتفخ الساق وورم القدم، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً!

 

فلما نظر جابر إلى علي بن الحسين وأنه ليس يغني قول من يستميله من الجهد والتعب إلى القصد، قال له: يا ابن رسول الله، البُقْيَا على نفسك فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء وتكشف اللأواء وبهم تستمطر السماء. فقال: يا جابر، لا أزال على منهاج آبائي حتى ألقاه!

 

فأقبل جابر على من حضر وقال: والله ما رؤي من أولاد الأنبياء «عليهم السلام» مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب! والله لَذُرِّية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب! إن منه لمن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.

 

كما سجلوا من روائع أخلاق الإمام «عليه السلام» مع الله تعالى، فقد كان مريضاً وسأله أبوه: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن أكون ممن لا أقترح على الله ربي ما يدبره لي! فقال له: أحسنت، ضاهيت إبراهيم الخليل «عليه السلام» حيث قال له جبرئيل: هل من حاجة؟ فقال: لا أقترح على ربي ، بل حسبي الله ونعم الوكيل. (الدعوات / 168).

 

وأنه كان يجلُّ ربه تعالى أن يحلف به، ولذا أفتى فقهاؤنا بكراهة اليمين الصادقة، قال في جواهر الكلام: 35 / 341: (بل يستحب عدم الحلف على العظيم من المال أيضاً بقصد الإجلال والتعظيم لقول النبي «صلى الله عليه وآله»: مَنْ أجَلَّ اللهَ أن يحلف به، أعطاه خيراً مما ذهب منه! ودفع زين العابدين «عليه السلام» إلى امرأته التي ادعت عليه صداقها أربعمائة دينار، وقال: أجللت الله عز وجل أن أحلف به يمين بِرّ.. وعلى كل حال فاليمين الصادقة مكروهة).

 

ومن رقة أدبه «عليه السلام» أنه ربما لبس ثوب الخز في الشتاء ثم يبيعه ويتصدق به ويقول: (إني لأستحيي من ربي أن آكل ثمن ثوب قد عبدته فيه). (تذكرة الفقهاء: 2 / 510). وكان يقول لخادمه: (إذا أردت أن تشتري لي من حوائج الحج شيئاً فاشتر ولا تماكس). (الفقيه : 3 / 197). فكأنه يستحي من ربه أن يدقق فيما يشتريه لزيارة بيته!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد