شهر رمضان هو الشهر الذي تتنزّل فيه رحمة الله على عباده، وهو الشهر الذي تكون مغفرته فيه وفيوضاته العامّة على الناس أعمّ وأكثر من سائر الأشهر، ومن خصوصيّات هذا الشهر: أنّ الإنسان يَرى التغيير في نفسه في هذا الشهر سواءً أكان صائماً أم غير صائمٍ ويرى التحوّل والتبدّل في نفسه، يعني: هناك غلبةٌ للقوى المعنويّة للصوم على جميع الناس؛ ولهذا يتأثّر الإنسان رغب أم لم يرغب، فكيف به إن كان هو بنفسه صائماً، أو كان لديه أفضل أنواع الصيام!! ذلك لأنّهم يقولون الصوم له عدّة أقسام: فهناك صوم العوام، وهو الصوم الذي شُرحت كيفيّته في الرسائل العمليّة، فيصوم الصائم بناءً لتلك الطريقة المشروحة: لا يتناول المفطرات، ولا يقترف المحرّمات، وصيامه صيام مقبول، وهو يتوقّف عند هذا الحدّ: لا يتناول الطعام، ولا يشرب الشراب، ولا يدخل الدخان الغليظ إلى حلقه، ولا يرمس رأسه في الماء، وأمثال ذلك ...، أي يمتنع عن تلك المفطرات المعروفة. وهذا الصيام هو عبارة عن نوع من إسقاط التكليف.. إسقاطٌ للتكليف الظاهر. ولكن نحن ليس لدينا تكليف وحسب!
لا ينبغي الاقتصار على المرتبة الظاهريّة للعبادة في البحث الفقهي
للأسف إنّ هذه المسألة من المسائل التي لم تُبحث في الفقه المتداول هذه الأيام بنحوٍ دقيق، ففي الرّسائل العمليّة وأمثالها لا يبحثون إلاّ عن بُعدٍ واحدٍ من المسائل الفقهيّة والشرعيّة، وهي مسائل الحلال والحرام الظاهري، من دون الالتفات إلى المسائل والمراتب الأعلى من المسألة الظاهريّة، فهذه الأمور لا وجود لها في الرسائل العمليّة. وبعبارة أخرى؛ يقولون: إنّ الرسائل العمليّة لا تتكفّل إلاّ بتكاليف العوام، أمّا التّكاليف الواقعة على عهدة الخواصّ فلا وجود لها هناك، نعم، وهذا الأمر هو أمرٌ طبيعيّ أيضاً.
التكاليف تختلف باختلاف مراتب البصيرة والفعليّة للمكلّفين
ولكن إذا ما دقّقنا النظر فسنجد أنّ التكليف يختلف بحسب مراتب البصيرة والفعليّة للمكلّفين؛ فتكليف العوام هو العمل بالفرائض والواجبات المعروفة والمعلومة للجميع، والانتهاء عن تلك المحرّمات التي من قبيل: التهمة، السرقة، شرب الخمر، وأمثال ذلك ... وهذا التكليف تكليفٌ ظاهريّ. أمّا بالنسبة للأفراد الذين يمتلكون بصيرةً أعلى ويبتغون غايةً أرقى فتكليفهم يختلف، فهؤلاء يجب عليهم من أجل الوصول إلى ذلك المبتغى أن ينهمكوا بالأعمال التي لا يقوم بها العوام ولا يسعون إليها.
فكما أنّ الله سيحاسبنا يوم القيامة على تكاليفنا الظاهريّة، كذلك سيحاسبنا أكثر فيما يتعلّق برشدنا الفكري والعقلاني في إنجازنا للتكاليف.. سيقول لنا: أنا وهبتك عقلاً، منحتك السعة الفلانيّة، فلماذا لم تنتفع بتلك المواهب التي منحتك إياها؟! لم صرفت قواك في حدود القيام بتكاليف العوام وحسب؟! فذاك له تكليفه الخاصّ به، وتكليفه تكليفٌ ظاهريّ، وعندما يصوم يُسقط الإنسان هذا التكليف الظاهري عن ظهره.
كيفيّة صوم الخواصّ
ولكن لدينا صوم آخر يسمّى صوم الخواص: وهو الصوم الذي يهتمّ فيه الإنسان بالمسائل الدقيقة والباطنيّة فضلاً عن رعايته للمسائل الظاهريّة؛ فيحفظ لسانه عن قول اللغو. وليس المراد من اللغو الكذب! فالكذب شيء واللغو شيءٌ آخر. الكذب حرامٌ من الأساس، أمّا اللغو فهو التحدّث من دون التفات، من قبيل الكلام غير المفيد:
ـ «يا سيّدي: ارتفع سعر البنزين!».
ـ ارتفع فليرتفع فما شأني أنا؟! هذا يسمّى لغواً، فهو ليس بكذب ولكنّه لغو. والإنسان الصائم لا ينبغي أن يتحدّث في هذه المسائل، وإذا ما تحدّث فيها أثّر ذلك على صومه بشكل سلبي!
ـ «يا سيّدي: كنت في الشارع فرأيت حادثاً بين سيارتين، وقد اجتمع الناس واندلع شجار...».
ـ حسناً، لقد حصل ذلك.. فليحصل، فما شأني أنا؟
ـ «يا سيّدي: (مثلاً) رأيتُ المسألة الفلانيّة تحصل أمامي» وغيرها من المسائل التي تنقضي المجالس بالتحدّث فيها، من دون أيّ نتيجة تُرتجى، ثمّ بعد انتهاء العام يجد الإنسان أنّه لم يحصل على أيّ فائدة.
فهذا ليس من الكذب، ولا هو حرام، لكنّه لغو خالٍ من أيّ أثر، فهو ليس بمسألةٍ علميّة، وليس فيه مسألة معنويّة، بل مجرّد كلام فارغ، يتحدّث الإنسان به فقط لإتلاف الوقت والعمر. أمّا الخواصّ فلا يفعلون ذلك، وينبغي على الإنسان أن يبعد أذنيه عن سماع اللغو.
الابتعاد عن الحرام له مكانته المحفوظة ولابد من الالتزام به، ولكنّ ذلك ليس التكليف الوحيد للخواصّ، فمجرّد الابتعاد عن الحرام والاكتفاء بذلك هو من شأن العوام، وهم من ينبغي عليهم مراعاته؛ فسماع الموسيقى مثلاً حرامٌ، ولكنّ هذا الأمر لا يتعلّق بالخواصّ، وكذلك التهمة والافتراء وعدم الردع عنها حرامٌ، ولكنّه ليس موجّهاً للخواصّ، والغيبة والسكوت عليها حرام ولكنّها من مسائل العوام، و [الخواص لا ينبغي أن يكتفوا بذلك].
ومن هنا فلا ينبغي للإنسان أن يسمح لأذنه في شهر رمضان وحين الصوم أن تسمع كلاماً لغوياً، ولا ينبغي حتّى لأقدامه أن تتحرّكا بدون هدف وغاية، بل ينبغي أن تكون حركة الإنسان حركةً منطقيّةً لا لغويّة. وبشكل عامٍ فقد منح الله الإنسان الأعضاء والجوارح لإنجاز الأعمال المفيدة، وللقيام بالأعمال المنطقيّة، ولا ينبغي له أن يحرّكها بشكل عبثيّ ولَغَوِيّ، وهذا الأمر يتعلّق بالخواص. وإذا ما استطعنا في هذا الشهر أن نوصل عملنا إلى هذه المرحلة، فسنرى نتائجها أيضاً.
كيفيّة صوم خواصّ الخواص
نعم، هناك مرتبة أعلى من هذه أيضاً.. يوجد مرتبة أخرى لا نتحدّث عنها أصلاً. نعم، سنذكرها بالإجمال، ولكن علينا أن نطلب من الله أن يوفّقنا للوصول إلى تلك المرحلة. يذكرون أنّ هذه المرحلة الأعلى هي: صوم خواصّ الخواصّ، فما هو هذا الصوم؟ هو ذلك الصوم الذي يحرص الإنسان فيه على عدم ورود الخطورات في ذهنه من الأصل، لا أنّ الخاطرة تحدث في الذهن ثمّ يدفعها.
كان النبيّ عيسى ـ على نبيّنا وآله وعليه السلام ـ يَعبُر بصحبة الحواريّين بجانب خربة، وكان يخرج من الخربة دخانٌ، فصاروا يسعلون بسبب الدخان الذي وصل إليهم واستنشقوه فاختلّ وضعهم. فقال لهم عيسى عليه السلام: أيّها الحواريّون! لقد أمر النبي موسى في شريعته بالابتعاد عن الزنا، أمّا أنا فأقول لكم لا تجعلوا حتّى خياله يخطر على بالكم؛ لأنّ خيال هذا العمل القبيح يشبه اللهب والنيران التي أوقدت بعيداً: فهي رغم أنّها لا تحرق الإنسان، لكنّ دخانها الصاعد سيؤذيه ويصل إليه.
إنّ اللطافة التي يكتسبها السالك من خلال العبادة، تزول بسبب تخيّلٍ واحدٍ للمعصية، فإذا أراد أن يحفظ تلك النورانيّة التي في نفسه لا ينبغي أن يكون لديه حتّى الخطور! {إنّ الَّذينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا} «فعندما يريد أن يأتي الشيطان ينبغي أن يتذكّروا»، فهو يأتي فيلفُّ ويدور باحثاً عن أيّ سبيل ليدخل منه... يبقى يلفُّ ويدور حتّى يجد منفذاً يعبر من خلاله.
أرأيتم الحويمن عندما يريد أن يدخل إلى البويضة لكي يلقّحها، فبعض جدران البويضة المؤنّثة تكون أرقّ وأضعف من البعض الآخر، ولذا تجد الحيومنات تلتصق بجدار البويضة وتستمرّ بضربه وطرقه حتّى تجد ذلك الموضع الضعيف الذي تستطيع العبور من خلاله إلى داخل البويضة ليحصل التلقيح وتنعقد النطفة... إنّها تبقى تلفّ حول البويضة باحثة عن ذلك المنفذ وتلك الخصوصيّة. وهذا عجيب واقعاً، فأيّ شعور منحه الله عزّ وجلّ ليفعل ذلك، ثمّ نحن نأتي بكلّ بساطة ... إنّ هذه الحويمنات تظلّ في حالة دوران حتّى يستطيع أحدهم أن ينفذ من أحد الأقسام الأضعف ليدخل إلى الداخل، وبمجرّد دخوله تبدأ أفعال وانفعالات أخرى بالحصول فيحصل التلقيح، وغيره من المسائل الأخرى.
إنّ الشيطان يدور حول الإنسان مثل ذلك الحويمن الذي يدور حول البويضة، فهو يدور حول الإنسان باحثاً مدقّقاً، وحيثما وجد ثغرة في نفس الإنسان نفذ إلى النفس منها.. إنّه يدور حوله هكذا، وعندما يجد ثغرةً يأتي وينفث سمّه هناك ويدخل.
ولهذا ينبغي على الإنسان ـ فبمجرّد أن تبدأ أيّ فكرة غير سليمة بالخطور في الذهن ـ أن يدفع تلك الفكرة سريعاً عن خاطره، لأنّه إذا سمح لها من الاوّل بالورود إلى ذهنه، والدخول إلى نفسه فغنّها ستستقرّ فيه وتنعقد النطفة! وحينئذٍ فهل يمكن للإنسان أن يدفعها؟ هل يمكن لها أن تزول؟ كان ينبغي أن تردّها من الأوّل كما كان يقول المرحوم الحدّاد: عن أيّ شيطان يتحدّث هؤلاء وما هذا الكلام؟! على الإنسان أن يحمل خنجراً بجانب قلبه، وكلّما أراد الشيطان أن يأتي يطعنه على رأسه، ولا يسمح له بالاقتراب أصلاً .
إنّ الكلام يعود إلى هذه المسألة؛ لأنّ نفس الإنسان لها هذه الخصوصيّات، فهذه النفس نفس هيولائيّة؛ يعني: نفس لها القابليّة للتشكّل ولا ينبغي أن نسمح لها بالتشكّل. وعندها إن كان هذا الفكر والخيال صحيحاً ومنطقيّاً .... حسناً، هذا التخيّل يأتي ويتشكّل؛ لأنّ الأمر الذي يوجب تغيّر النفس وانقلابها ليس نفس العمل الظاهري، كأن يقوم الإنسان بفعل ما، فهذا فعل خارجي، والفعل الخارجي لا يؤثّر في النفس، بل إنّ النيّة التي تقف وراء هذا العمل الخارجي، تلك النيّة هي التي تؤثّر في النفس وتغيّرها، فكما أنّ النيّة لا يمكن لها أن تؤثّر في الخارج (طبعاً لا يخفى أنّ النيّة بأحد اللِحاظات تعتبر عملاً خارجيّاً)، مثلاً: مهما نويتم أن تأكلوا؛ فلن تشبعوا، بل ينبغي أن تتناولوا الطعام لتحصيل الشبع. كذلك فإنّ الأمر الموجب لتغيير النفس وتبدّلها هو النيّة والتخيّلات التي ينويها ويتخيّلها الإنسان؛ إن كانت النيّة والتخيّل صحيحين فإنّهما يسوقان النفس إلى التجرّد، أمّا إن كان ذلك التخيّل والصور الذهنيّة صوراً سيّئة فإنّها تُرجع النفس القهقراء.
إذاً بناءً على ذلك فصوم خواصّ الخواصّ هو ذلك الصوم الذي ليس فيه أصلاً أيّ تخيّل للمعصية أبداً، بل كلّ ما ينتقش في الذهن هو رضا الله، ولا ينتقش فيه إلاّ ما ينوّر النفس، وما يوجب انبساطه.. هذا الصوم هو صوم خواصّ الخواص.
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ جعفر السبحاني
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ حسين الخشن
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
التعددية الدينية
زيادة الذاكرة
الضمائر في سورة الشمس
متى وكيف تستخدم الميلاتونين المنوم ليساعدك على النوم؟
تراتيل الفجر، تزفّ حافظَينِ للقرآن الكريم
في رحاب العيد
لنبدأ انطلاقة جديدة مع الله
المنطقة تحتفل بعيد الفطر، صلاة ودعاء وأضواء وتواصل
من أعمال وداع شهر رمضان المبارك
العيد الامتحان الصعب للحمية