مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطهراني
عن الكاتب :
عُرف بين الناس باسم العلامة الطهراني، عارف وفيلسوف، ومؤلف موسوعي، من مؤلفاته: دورة المعارف، ودورة العلوم، توفي عن عمر يناهز الواحد والسبعين من العمر، سنة 1416 هـ.

ما هي ليلة القدر؟ وكيف نستفيد منها؟

إن حقيقة الوجود الخارجي للأشياء وكيفيّة ثبوت هذه الحقيقة قبل خلق الأشياء متجلّية في الآية الشريفة التي تقول: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ في‏ لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ}، فما هي هذه الليلة؟ إنّها هذه الليلة! وهي الليلة التي أنزلنا فيها القرآن دفعةً واحدةً على قلب الرسول، وهذا لا يعني أنّنا خلقنا القرآن في نفس هذه الليلة ـ بحيث لم يكن له أيّ وجود قبلها ـ، بل إنّ هذا القرآن كان له وجود في العلم الربوبي، وإلاّ لو كان الأمر كذلك، فكيف تسنّى لأمير المؤمنين عليه السلام عند ولادته أن يقرأ سورة المؤمنين للرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم حينما أُعطي قماطه؟ وطفق يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم‏، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، حيث قرأ مقطعًا من هذه السورة إلى حدّ معيّن.

 

فإذا كان القرآن قد خُلق دفعةً واحدة في ليلة القدر، فكيف تسنّى لأمير المؤمنين أن يقرأ هذه السورة؟! ومن أين حصل للرسول اطّلاع على السور القرآنيّة؟! وإذا كان هذا القرآن قد نزل على قلب الرسول الأعظم، كيف تسنّى لإمام الزمان ـ الذي تنتسب إليه هذه الليلة ـ أن يضع رأسه للسجود حينما خرج من بطنه أمّه.. حضرة السيّدة نرجس، ويشرع في قراءة الآيات المرتبطة بظهوره: {وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ}؟!

 

فالطفل الذي يولد حديثًا لا يكون له علم بالقراءة بعد، ولا يكون لديه اطّلاع على ما يدور حوله، ولا يكون قد اكتسب معلومات بعد؛ وبالتالي، حين تلا صاحب الزمان عليه السلام هذه الآية، ما هي المرتبة التي تلقّاها فيها؟ وما هي الدرجة والمرحلة التي اتّصل بها ليحصل له اطّلاع عليها؟ هل يعدو ذلك كون الصورة الخارجيّة للقرآن لها صورة عينيّة في العلم العنائي للحقّ تعالى؟! ففي ذلك المقام، تتوفّر جميع الأشياء على صور، غاية الأمر أنّ البعض يحصل لهم اطّلاع على تلك الصور فيلتفتون إلى حقيقة الأمر، والبعض الآخر ـ مثلنا نحن ـ لا يحصل لهم ذلك؛ فيكونون في حاجة إلى انقضاء الزمان وتبدّل المكان لكي تتحقّق تلك الصور في الخارج.

 

وعلى كلّ حال، كما أنّ القرآن كان يمتلك وجودًا تدريجيًّا بالنسبة للرسول، فقد كان يتوفّر أيضًا على وجود دفعي؛ وقد تحقّق هذا الوجود الدفعي دفعةً واحدةً خارج الزمان والمكان، وأمّا ذلك الوجود التدريجي، فهو بمثابة الشريط الذي بدأ في غار حراء بسورة العلق: {بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربّك الذي خلق خلق الإنسان من علق}، وانتهى في المدينة في الأيّام الأخيرة من حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم؛ فهذا الوجود هو وجود تدريجيّ، ويبقى أنّ للقرآن وجودًا تحقّق بحسبه كلّ ذلك الشريط في نفس الرسول دفعةً واحدةً وفي لحظة واحدة، بحيث صار النبيّ الأكرم مطّلعًا على جميع الآيات القرآنيّة؛ وهذه اللحظة هي الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان!

 

في هذه الليلة، نزل القرآن دفعةً واحدة على وجود النبيّ الأكرم.. {فيها يُفرق كلّ أمر حكيم}؛ فما هي الخصائص التي تتميّز بها هذه الليلة؟ إنّ جميع الأمور المسجّلة في العلم الربوبي وفي لوح التقدير وفي مقام القضاء والقدر يتمّ تقديرها وتحديدها في هذه الليلة لكي تتلبّس بالوجود الخارجي.. {يُفرق كلّ أمر حكيم}؛ أي أنّ جميع الحوادث والأفعال الخارجيّة التي تتّصف بالحكمة والثبات والرسوخ ـ فلا يتطرّق إليها الشكّ وتأبى عن الزوال ـ تنفصل عن بعضها في هذه الليلة؛ ففي هذه الليلة، تتعيّن جميع العلوم التي سنحصل عليها من الآن إلى السنة القادمة، ويتحدّد مقدار ما سنحصل عليه في السنة الآتية من علم وقدرة ومكنة وصحّة وما سنُبتلى به من مرض، وهل سيُكتب لنا الموت في هذه السنة، أم سنبقى على قيد الحياة، وما هي القضايا والحودث التي سنواجهها طيلة هذه السنة.

 

فإذا كانت هذه الليلة تُسمّى بليلة القدر، فلأنّها هي ليلة التقدير وليلة التقييم والقياس والميزان والوزن والتقسيم، والليلة التي يتحدّد فيها رزقنا؛ وبالتالي، فهي ليست بالليلة الهيّنة! وعلينا ألّا نستخفّ بها ونستسهلها! ففيها يتعيّن الرزق الذي سيصلنا من الله تعالى؛ والمراد من الرزق هنا ليس هو الماء والخبز، بل المراد منه هو النصيب الذي قُدّر لنا من ذلك الوجود؛ فهو الذي يتعيّن في هذه الليلة. {بسم الله الرحمن الرحيم إنّا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر سلام هي حتّى مطلع الفجر}؛ فهذه الليلة هي أفضل من ألف شهر لا يوجد فيه ليلة القدر..

 

{تنزّل الملائكة والروح فيها من كلّ أمر}؛ أي أنّ الروح والملائكة تتنزّل من كلّ جهة؛ فتأتي ملائكة العلم إلى هذا العالم وتعرض علم الإنسان على ذلك الوجود، وتأتي ملائكة القدرة في هذه الليلة بكلّ تحتاجه مخلوقات عالم الوجود ـ من كواكب ومجرّات وأناس وجمادات وحيوانات ومادّيات ـ من أجل استمرار حياتها، وكذلك الأمر بالنسبة لملائكة الحياة وملائكة الرزق.. {سلام هي حتّى مطلع الفجر}؛ فينزل سلام الله تعالى ورحمته في هذه الليلة إلى حين إشراقة الصبح. ويقول الإمام الصادق عليه السلام في تفسيره لهذه السورة: إنّ جميع التقديرات التي ستحصل إلى السنة القادمة تتعيّن في هذه الليلة؛ فيتحدّد في هذه الليلة ما سنفعله غدًا، وما هي الأمور التي ستواجهنا في المستقبل..  

 

ولهذا يقول عليه السلام في كلامه مع ذلك الشخص الذي سأله: (يا ابن رسول الله، ماذا ينبغي علينا فعله في هذه الليلة؟) .. يقول له: إذا كنت قد بيّنت لك الخصائص التي تتميّز بها هذه الليلة، فينبغي أن تعلم بنفسك ما هو الواجب عليك فعله! فبمقدار العبادة التي تؤدّيها، وبمقدار توسّلك، وبمقدار الصفاء والخلوص الذي تحصل عليه في ارتباطك بذلك المبدأ، وبمقدار ما يكون قلبك نقيًّا، سوف يكون نزول الملائكة بتلك التقديرات أكثر صفاءً وخلوًّا من الوسائط.. فكلّما كان هذا القلب نقيًّا أكثر، استفاد أكثر من الرزق الذي ينبغي عليه أن يُخزّنه للسنة القادمة.

 

لقد ورد نهي شديد عن النوم في هذه الليلة والغفلة فيها إلى طلوع الشمس؛ لأنّه من المحتمل أن يأتي ملكٌ في نفس هذه اللحظة التي غفلنا فيها ببعض الفيوضات الوجوديّة، فيجد قلبًا غافلاً وغير مستيقظ؛ فلو غفلنا للحظة واحدة، ستتعرّض كيفيّة نزول تلك الفيوضات للاهتزاز والتشويش؛ ولهذا يقول الإمام عليه السلام: كم هو جدير بالإنسان أن يظلّ مستيقظًا هذه الليلة! حيث يسألونه عليه السلام: هل ليلة القدر هي ليلة الواحد والعشرين، أم ليلة الثالث والعشرين؟ فيُجيب عليه السلام: ما أقلّ ليلتين في قبال ما أخبرتك عنه [حول فضيلة هذه الليلة !

 

فيقول السائل: أُخبرنا بأنّ الهلال قد شوهد في المكان الفلاني في الليلة الفلانية، فلا ندري هل ليلة القدر هي هذه الليلة أم الليلة التي بعدها؟! فيقول الإمام عليه السلام: ما الإشكال في أن تُحيي الأربع ليالي جميعاً؟! هل إحياء أربع ليالٍ بالنسبة لمسألةٍ بتلك الأهمية يُعدّ شيئاً ذا بال؟! وهل إحياء أربع ليالٍ والبقاء مستيقظاً فيها أمرٌ صعب؟! ما أيسر إحياء أربع في مقابل الوصول إلى هذه الغاية العظيمة!

 

ثم قال له الإمام عليه السلام: إنّ ذلك الحكم البتّي القطعي الذي ينزل من الله عزّ وجل.. ذلك الحكمّ يُقدّر ويُحدّد في هذه الليلة، العلم الذي ينزل لبني آدم يُقدّر ويُحدّد في هذه الليلة، الملائكة الموكّلة بذلك العلم يأتون بذلك العلم ويخلطونه ويعجنونه بالوجود المثالي والملكوتي للإنسان الذي سيتحرّك في هذه الفترة الزمنية المحدّدة، وبعبارة أخرى: فإن عاقبة الإنسان ومصيره تُعطى له في هذه الليلة..

 

فما هو مقدار العلم الذي سيجعلونه من نصيبه [وكيف يحددون ذلك المقدار]؟ إنّهم ينظرون إلى حاله فيرون كيف حاله ووضعه في تلك الليلة، فإن كانت حالته جيّدة فسيزيدون في نصيبه، وأمّا إن كانت حالته غير جيدة فسيقلّلون من نصيبه.

 

إنّ سلسلة العلل والمعلولات في عالم الأسباب والمسببات تُقدّر الليلة؛ فالحوادث والأمور التي ينبغي أن تقع في السنة القادمة تحتاج لتحقُّقها إلى سلسلة من الأسباب.. تحتاج لسلسلة من العلل والمعاليل. وكذا المصائب التي ستحصل لنا في المستقبل كلها خاضعةٌ لسلسلة العلل والمعلولات.

 

إنّ كيفيّة ترتيب هذه السلسلة من العلل بحيث توصلنا إلى هذه النقطة الإيجابية وتحرفنا عن تلك النقطة السلبية تحدّد وتقدّر في هذه الليلة؛ أي أنّه في هذه الليلة سوف يتمّ فيها تقدير كيفية ترتّب الحوادث في هذه السنة لكي تنقلنا من هذه الجهة إلى تلك الجهة؛ تلك الحوادث التي تأتي فتمنعنا من أن تزلّ قدمنا في هذا المكان.. تمنعنا من أن يلتفت ذهننا إلى هذا الخطأ.. تمنعنا من أن نرتكب هذا الحرام.. تمنعنا من أن نخطئ ذلك الخطأ، إنّ هذه السلسلة من العلل التي نحتاجها لتوجّهنا وتفتح لنا طريقنا تقدّر هذه الليلة، فالليلة هي ليلة وضع الخطّة والبرنامج!

 

بناء على هذا، فإنّ الأمر المهم بالنسبة لنا هو أنّه علينا أن ننتبه كيف سنقضي ليلتنا هذه، فهذه الليلة هي ليلة مهمّة جداً، ويوجد عندنا روايات عديدة تقول بأن ليلة القدر هي ليلةٌ تعرض الملائكة فيها صحيفة أعمال السنة على إمام زمان ذلك العصر، ففي كل زمان تعرض الأعمال على الإمام المختصّ بذلك الزمان، في زمن أمير المؤمنين أعمال السنة تعرض عليه، وفي زمن الإمام المجتبى تعرض أعمال تلك السنة عليه وهكذا...

 

جاء عبدالله بن أبان الزيّات إلى الإمام الرضا فقال له: يا ابن رسول الله ادع لي ولأهل بيتي. فقال له الإمام عليه السلام: أولست أفعلُ ذلك؟! (فكيف تطلب مني هكذا طلب؟!) أَوَلا تعلم أن أعمال العباد تُعرض علينا في كل يومٍ وليلة؟ هل تعلمون ما معنى هذا الكلام؟ يعني أن الإمام الرضا عليه السلام في كل لحظة عنده إحاطة على جميع عالم الوجود، ليست إحاطةٌ صوريّة وإنما إحاطة حضوريّة، ألا تعلم أن أعمال جميع العباد تُعرض علينا كل يوم وليلة؟ فتعجّب ذلك الشخص تعجباً شديداً، واستعظم الأمر، فقال له الإمام: ليس في الأمر عجب، ألم تقرأ في القرآن {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُون} من هو المقصود بـ"المؤمنون"؟ يقول الإمام: المقصود من المؤمنين هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. أمير المؤمنين وأبناؤه يشاهدون جميع أعمالنا؛ لذلك فإنّ الليلة هي ليلة إمام الزمان، والتوسّل بإمام الزمان في هذه الليلة أكثرُ تأثيراً من أي شيء آخر، جميع تلك الأمور التي ستحصل في العالم تحصل من خلال نافذة إمام الزمان.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد