لا ريب في أنّ النظام التكوينيّ إنّما هو على الطاعة والهداية، ولا مجال للعصيان والضلالة فيه؛ لأنّ زمام كلّ موجود تكوينيّ إنّما هو بيد اللَّه سبحانه، وهو تعالى على صراط مستقيم، وكلّ ما كان زمامه بيد من هو على الصراط السويّ فهو مهتد البتّة، ويستفاد ذلك من قوله تعالى (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) «1» لدلالته على الأصلين المذكورين، وحيث إنّه لا مجال للتمرّد في التكوين يكون كلّ موجود ممكنًا فهو يأتي ربّه طائعًا، كما يدلّ عليه قوله تعالى (فَقالَ لَها وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) «2».
والذي يشاهد من الضّلالة والغواية فإنّما هو في التشريع، حيث إنّ المكلَّف مختار في طيّ السبيل السويّ أو الغويّ، وإنّما العبادة – سيّما الصلاة – قد شرّعت لتطابق النظامين، وقد شرّع في الصلاة أحوال تمثّل النظام التكوينيّ من الطاعة والهداية.
إنّ من تلك الأحوال الممثّلة للخضوع هو: القنوت، لأنّه ابتهال وتضرّع، وتبتّل تجاه الربّ الجليل، وحيث إنّ اللَّه جواد لا يخيّب آمله ولا يردّ سائله، قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: «ما أبرز عبد يده إلى اللَّه العزيز الجبّار إلَّا استحي اللَّه – عزّ وجلّ – أن يردّها صفرًا حتّى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتّى يمسح على وجهه» «3» هذا عدا ما يذكر في القنوت ممّا يدلّ على ضراعة العبد ومسكنته وكونه ذا متربة لاصقًا به، غير قادرة على القيام عنها، نحو ما في دعاء قنوت الوتر «ربّ أسأت، فهذه يداي يا ربّ جزاء بما كسبت، وهذه رقبتي خاضعة لما أتيت» «4».
وللاهتمام بالقنوت الممثّل لما هو السرّ التكوينيّ، المورث للتطابق بينه وبين النظام التشريعيّ قال مولانا الحسين بن عليّ عليهما السلام: «رأيت رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – يقنت في صلاته كلَّها وأنا يومئذ ابن ستّ سنين» «5» فهو – عليه السّلام – بحيث يحضر في صلوات جدّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – كلَّها، وكان زكيًّا وذكيًّا، ومراقبًا ومحاسًبا، حتّى يتبيّن له ما يأتيه جدّه صلَّى اللَّه عليه وآله، إذ الناس مأمورون بأخذ الأحكام من سنّته – صلَّى اللَّه عليه وآله – وسيرته.
ولهذا الاعتداد بالقنوت قال مولانا الصادق عليه السّلام: «من ترك القنوت متعمّدًا فلا صلاة له» «6»، أي: لا كمال لها؛ لأنّ الصلاة إنّما هي للهداية إلى ما هو النظام التكوينيّ من الطاعة التامّة والهداية البالغة، والقنوت الذي هو مظهر تامّ للتبتّل والابتهال موجب لكمالها، فإذا ترك القنوت فيها فتفقد – حينئذ – كمالها النهائيّ.
وأمّا التشهّد فأصله قد تمثّل في المعراج، حيث إنّه لمّا أراد رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – ليقوم قيل: يا محمّد، اجلس، فجلس، فأوحى اللَّه إليه: يا محمّد، إذا ما أنعمت عليك فسمّ باسمي، فألهم أن قال: بسم اللَّه، وباللَّه، ولا إله إلَّا اللَّه، والأسماء الحسنى كلَّها للَّه، ثمّ أوحى اللَّه إليه: يا محمّد، صلّ على نفسك وعلى أهل بيتك، فقال صلَّى اللَّه عليه وآله: صلَّى اللَّه عليّ وعلى أهل بيتي «7».
وتأويل التشهّد حسبما في رواية جابر هو تجديد الإيمان، ومعاودة الإسلام، والإقرار بالبعث بعد الموت. وتأويل قراءة التحيّات هو تمجيد الربّ سبحانه وتعظيمه عمّا قال الظالمون ونعته الملحدون «8».
وإنّ سرّ تعدّد السجود هو الإقرار بالبدء من التراب والعود فيه والنشور منه، فإذا جلس المصلَّي للتشهّد فكأنّه قد انبعث من مرقده، فيقرّ بالبعث بعد الموت، ويتكلَّم هنا بالتعليم الإلهيّ ما يشاهده هنالك بعد الانبعاث من الجدث، فكما أنّ للقرآن تأويلًا فيأتي ذلك التأويل يوم القيامة كما أخبره اللَّه تعالى كذلك للتشهّد سرّ عينيّ، وتأويل تكوينيّ يتجلَّى ذلك السرّ يوم القيامة؛ لأنّ في ذلك اليوم تبلى السرائر والأسرار، كما أنّ النظام الاعتباريّ ينطوي بساطه ببسط النظام الحقيقيّ.
وللجلوس حال التشهّد كيفيّة مندوب إليها، وهو التورّك برفع الرجل اليمنى على اليسرى، وتأويله كما في مرسلة الفقيه: «اللَّهمّ أمت الباطل وأقم الحقّ» «9»، لأنّ اليمنى مظهر الحقّ والصدق، واليسرى كناية عن الباطل والكذب، ولقد روعي هذا الأمر في الآداب والسنن لتكون كلمة اللَّه هي العليا، وإلَّا فالمؤمن كلتا رجليه يمنى، كما أنّ كلتا يديه كذلك؛ لأنّه من أصحاب اليمين والميمنة، كما أنّ غير المؤمن كلتا رجليه يسرى وكلتا يديه كذلك، والأصل في ذلك كلَّه ما ورد في حقّ اللَّه سبحانه من أنّ كلتا يديه يمين، مع أنّه لا يد ولا أيّة جارحة أخرى هنالك لتنزّهه تعالى عمّا يدركه الطرف أو يحسّه الحسّ.
وحيث إنّ ولاية أهل البيت – عليهم السّلام – هي العلَّة الوسطى لدوام الفيض من اللَّه الذي لا يشركه في أمره أحد ولا شيء أمر بلحاظها في التشهّد، كما أمر بعنايتها في افتتاح الصلاة، وكما أنّ أصل الصلاة لا تقبل بدون الولاية كذلك صلاة من ترك التصلية على أهل البيت – عليهم السّلام – مردودة وإن كان المصلَّي وليًّا لهم، كما يستفاد من رواية جابر الجعفيّ حيث قال: سمعت أبا عبد اللَّه – عليه السّلام – يقول: «إذا صلَّى أحدكم فنسي أن يذكر محمّدًا وآله في صلاته سلك بصلاته غير سبيل الجنّة، ولا تقبل صلاة إلَّا أن يذكر فيها محمّد وآل محمّد صلَّى اللَّه عليه وآله» «10».
وعن النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله: «من صلَّى صلاة لم يصلّ فيها عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه» «11». وفي رواية زرارة، عن الصادق عليه السّلام: «أنّ من تمام الصوم إعطاء الزكاة كالصلاة على النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – من تمام الصلاة» «12» وحيث إنّ الصلاة على النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – بدون الصلاة على أهله بتراء فالصلاة عليهم أجمعين من تمام الصلاة، كما أنّ بالولاية كمل الإسلام، وتمّ نصاب النعمة الإلهيّة، وصار الإسلام الولائيّ مرضيًّا للَّه سبحانه حسبما في آية من المائدة «13».
ثمّ إنّ للقيام من السجدة أدبًا له تأويل، وله ذكر ذو سرّ، أمّا القيام من السجدة في الركعة الثانية الَّتي لها جلوس وتشهّد فمسبوق بالقعود، ولا كلام فيه، وأمّا في الركعة الأولى وكذا الثالثة من الرباعيّة اللتين لا تشهّد فيهما فليس للمصلَّي أن ينهض من السجود إلى القيام بلا جلوس، بل عليه أن يجلس مطمئنًا، ثمّ يقوم، كما في التهذيب، عن أمير المؤمنين – عليه السّلام – حيث قال: «إنّما يفعل ذلك – أي: النهوض بلا جلوس – أهل الجفاء من الناس، إنّ هذا – أي: الجلوس ثمّ النهوض – من توقير الصلاة» «14»، وفي المستدرك عن مولانا أبي الحسن عليه السّلام: «إذا رفعت رأسك من آخر سجدتك في الصلاة قبل أن تقوم فاجلس جلسة، ثمّ بادر بركبتك إلى الأرض قبل يديك، وابسط يديك بسطًا واتّك عليهما ثمّ قم، فإنّ ذلك وقار المرء المؤمن الخاشع لربّه، ولا تطيش من سجودك مبادرًا إلى القيام كما يطيش هؤلاء الأقشاب في صلاتهم» «15».
إنّ الصلاة الاعتباريّة المعهودة تحكي واقعيّتها المعنيّة الَّتي لها آثار جمّة، فتكون مكرّمة، وكرامتها تقتضي توقيرها، والجلوس مطمئنًا حافظ لتوقيرها، فللجلوس تأويل يستظهر عند ظهور واقعيّة الصلاة، وهو يوم يطوي فيه بساط الاعتبار كطيّ السجلّ.
وأمّا الذكر حال القيام من الجلوس فهو: بحول اللَّه تعالى وقوّته أقوم وأقعد «16»، وسرّه هو: أنّ النظام العينيّ التكوينيّ الذي به يعيش الإنسان المتفكَّر المختار منزّه عن دم إفراط التفويض، ومبرّأ عن روث تفريط الجبر، بل هو لبن خالص سائغ للشاربين، لكونه منزلة بين تينك المنزلتين المشؤومتين، فالمفوّض يقول: لا حول ولا قوّة للَّه فيما يفعله الإنسان في شؤونه الإراديّة، والجبريّ يقول: لا حول ولا قوّة إلَّا للَّه في ذلك، والقائل بالاختيار، المصون عن ذينك المحذورين يقول: لا حول ولا قوّة إلَّا باللَّه، فهو يثبت للإنسان حولا بحول اللَّه تعالى، وقوّة بقوّته، فالذكر الذي يأتيه المصلَّي حين النهوض إلى القيام بعد الجلوس حاو لأصل كلَّيّ متحقّق في جميع شؤونه الإراديّة بلا خصيصة له بحال الصلاة، كما لا اختصاص له بحال القيام حسبما أخذ في متن الذكر أيضًا، إذ قعود الإنسان أيضًا بحول اللَّه وقوّته، كما أنّ قيامه بذلك، وذلك السرّ التكوينيّ يتجلَّى يوم القيامة الَّتي يظهر فيها ما هو الباطن، وهنالك يتّضح بطلان طرفي المتوسّط من الجبر والتفويض، وكون المتوسّط بينهما حقًّا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«1» هود : 56.
«2» فصّلت : 11.
«3» جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 319.
«4» المصدر السابق : ص 322.
«5» المصدر السابق : ص 303.
«6» المصدر السابق : ص 302.
«7» المصدر السابق : ص 339.
«8» جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 340.
«9» جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 340.
«10» جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 337.
«11» جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 337.
«12» المصدر السابق : ص 336.
«13» وهي من قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ..)
«14» جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 286.
«15» جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 286.
«16» جامع أحاديث الشيعة : ج 5 ص 293 – 295.
محمود حيدر
الشيخ جعفر السبحاني
حيدر حب الله
السيد جعفر مرتضى
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ حسين مظاهري
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
بالإيحاء.. كان الوجود كلّه (1)
نظم القرآن البديع (1)
الحكمة القرآنية بين النظرية التجريدية والسلوك العملي
المعاهدات في الإسلام (2)
بعض أئمّة علم القرآن الكريم من الشّيعة الإماميّة
سرّ القنوت والتّشهّد والتّسليم في الصّلاة (1)
العدل الإلهي
بحث عن عالم البرزخ والنّفخ في الصّور والكوثر (1)
المعاهدات في الإسلام (1)
السّعادة حسن العاقبة