فجر الجمعة

الشيخ عبد الله النمر: مراح الأرواح

عنوان الخطبة: مراح الأرواح

اسم الخطيب: الشيخ عبد الله النمر

المكان: مسجد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) – حي الدانة، سيهات

التاريخ: الجمعة ٧ مارس ٢٠٢٥م (الموافق ٦ رمضان ١٤٤٦هـ)

 

 

مضمون الخطبة:

 

 في هذه الخطبة المباركة، يقف سماحة الشيخ عبد الله النمر عند محطتين رئيستين:

 الأولى: وقفة شكر وتأبين للراحل العالم الورع الشيخ عبد المحسن الطاهر النمر، مستعرضًا أبرز خصاله كالتقوى والوعي والتوازن.

 والثانية: تأملٌ في مراتب لذّة الإنسان، من اللذات البدنية والمعرفية، إلى اللذة الأسمى وهي لذّة الروح والأنس بالله، مستلهمًا في وصفها كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في خصال المتقين.

 خطبةٌ تحمل معاني الوفاء، وروحانية رمضان، ودعوة للارتقاء بالروح نحو عالم الطمأنينة والسكينة.

 

(الافتتاحية والدعاء والتقديم):

 

أعوذُ باللهِ السميعِ العليِّ العظيمِ من الشيطانِ الغويِّ الرجيم بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين وحبيبِ قلوبنا أبي القاسم محمدٍ وعلى آلِ بيتهِ الطيبينَ الطاهرين المعصومينَ الميامين.

 

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: ٥٦]. لبّيكَ يا ربِّي وسعديك.

 

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ، وباركْ على محمدٍ وآلِ محمدٍ، كما صلّيتَ وباركتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد. ارحمْ محمدًا وآلَ محمد، كما رحمتَ إبراهيم وآلَ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد. اللهم سلِّمْ على محمدٍ وآلِ محمد، كما سلَّمتَ على نوحٍ في العالمين.

 

اللهمّ امْنُنْ على محمدٍ وآلِ محمد، كما مننتَ على موسى وهارون. اللهمّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد، كما شرَّفْتَنا به. اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد، كما هديتَنا به. اللهمّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد، وابعثْه مقامًا محمودًا يربطه به الأولون والآخرون. على محمدٍ وآلهِ السلامُ كلَّما طلعتْ شمسٌ أو غربت، على محمدٍ وآلهِ السلامُ كلَّما طرفتْ عينٌ أو برقَت، على محمدٍ وعليهِ السلامُ كلما ذُكرَ السلام.

 

السلامُ على محمدٍ وآلهِ في الأولين، السلامُ على محمدٍ وآلهِ في الآخرين، السلامُ على محمدٍ وآلهِ في الدنيا والآخرة.

 

اللهمّ ربَّ البلدِ الحرام، وربَّ الركنِ والمقام، وربَّ الحلِّ والحرام، أبلِغْ محمدًا نبيَّك وآلَه عنّا السلام.

 

اللهمّ أعطِ محمدًا من البهاءِ والنضرةِ والسرورِ والكرامةِ والغبطة، والوسيلةِ والمنزلةِ والمقامِ والشرفِ والرِّفعة، والشفاعةِ عندكَ يومَ القيامة، أفضلَ ما تعطي أحدًا من خلقك. وأعطِ محمدًا وآله فوقَ ما تعطي الخلائقَ من الخير أضعافًا كثيرةً لا يُحصيها غيرك.

 

اللهمّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ أطيبَ وأطهرَ وأزكى وأنمى وأفضلَ ما صليتَ على أحدٍ من الأولين والآخرين. اللهمّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ بيتهِ الطيبينَ الطاهرين.

 

ثمّ السلامُ عليكم أيها المؤمنونَ جميعًا ورحمةُ اللهِ وبركاته.

 

(الآية الكريمة ومدخل الخطبة):

 

قال عزّ من قائلٍ في محكمِ كتابهِ الكريم: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ  (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). [التوبة: 71–72] صدقَ اللهُ العليُّ العظيم.

 

التمهيد لمحور الخطبة الأول:

 

لعلَّ الظروفَ والأسبابَ سوف تجعلُ الحديثَ هذا اليوم يتمحور حول نقطتين:

 

المحور الأول: هو وقفة شكرٍ لروحِ سماحةِ حجّةِ الإسلامِ والمسلمين، فضيلةِ الشيخ عبد المحسن الطاهر النمر.

 

أحبتي وإخواني، أنا أتحدثُ عن هذه الشخصية كرجلِ دين، أقصد أنه رجلُ دينٍ قام بدورٍ في المجتمع، ويجب على المجتمعِ أن يقفَ وقفةَ شكرٍ لهذه الشخصية، أخًا كان أو شاكرًا أو محبًّا أو متبعًا أو مستفيدًا أو مستنيرًا، من هذه الشخصية التي عاشت بين أظهرنا دهرًا من الزمن، تجسدت فيها القيمُ والأخلاقُ بهدوءٍ وسكينةٍ.

 

أعرف أن له خصالًا كثيرة، لعلّ المقام لا يسع الحديث عن كل خصاله، وليس المقامُ مقامَ تفصيلٍ، بمقدارِ ما نريد أن نؤكد، وكذلك أؤكّد أننا لا نُزكّي على الله أحدًا، فالله جلَّ وعلا أعلمُ بعباده، وقد انتقلَ الآن إلى رحمةِ اللهِ ولطفهِ وعطفهِ، ولكن حقٌّ علينا أن نقف هذه الوقفة كمجتمعٍ، كمجموعةٍ مؤمنةٍ استفادت من هذا الشخص، من خلال سلوكه وفعله وحركته.

 

بذلَ مجهودًا غير قليل – كما لمستُ ذلك بيدي – وأقول: إنني لا أتحدث عنه كأخٍ فقط، بل كشخصيةٍ دينيةٍ قامت بدورها خلال الفترة الزمنية التي عاش فيها بين أظهرنا.

 

(صفات الشيخ الفقيد):

 

كان – رضوانُ اللهِ تعالى عليه – يُجسّد مجموعةً من القيم،  أذكرُ منها ثلاثًا:

 

أولًا: أنه كان تقيًّا.

 

والتقوى والورع – وإنْ كان يُفترضُ أن يكونا ملازمَين لرجلِ الدين – إلا أنَّ التقوى والخوف من الله عز وجل بهذا المستوى وبهذا الأسلوب فريضةٌ على كلِّ إنسان، قد يتحلى بها مزارع، خباز، نعم، إنسانٌ لا يتلبسُ بلباسٍ دينيّ، وقد يتجرّد منها من يتلبّس بهذه الملابس الدينية – كالعِمّة والمظاهر الاجتماعية.

 

الرجلُ كان في غايةِ التقوى والورع والحذر، حتى إنّ بعضَ الأشخاص كانوا يقولون لي: "إنه متلكئٌ في حركته"، يقصدون: أنه لم يكن مُندفعًا أو نشيطًا على الظاهر.

 

وأنا أعرفُ أن خلفيةَ ذلك إنما هي ورعهُ وتقواه، ففي كلِّ الميادين وفي كلِّ الساحات، كان ورِعًا محتاطًا، يُراعي حدود الله بدقة.

 

ثانيًا: أنه كان واعيًا.

 

لم يكن الورعُ وحدَهُ هو الذي يُشخّص الطريق، بل كان بحاجةٍ إلى أن يكون الإنسان بصيرًا، عارفًا بمعادلات زمانه، بآفاقه الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، كان واعيًا، مدركًا، حصيفًا، نافذَ البصيرة، رحمةُ اللهِ عليه.

 

ثالثًا وأخيرًا: التوازن.

 

على الرغم من ورعهِ ووعيهِ وحصافته، كان في غاية التوازن، ولعلّ ذلك من أثر الورع والحصافة. كان في كلِّ الميادين متريّثًا، ينظرُ بهدوء، ويَزِنُ الأمور بميزانٍ دقيقٍ، يُحاسب نفسَه، ينظرُ في أمره أكثرَ من مرة قبل أن يُقدِم على أغلبِ الأمور، خصوصًا إذا كان لها انعكاسٌ أو مَساسٌ بالآخرين.

 

ولكي لا أطيل، أنتقل إلى المحور الثاني، وهو ما أريدُ أن أتكلمَ عنه في هذه الجمعة، تحت عنوان: "مراح الأرواح".

 

(مراح الأرواح – مراتب اللذة):

 

"المراح" يعني: الراحة، المساحة التي تهنأ فيها أرواحُ المؤمنين، وتأنسُ بها أرواحهم، وهذا الشهر، وهذه الفترة، وهذه الملابسات، كلُّها تدفع الأرواح إلى أن تترقّى إلى عالم السعادة والأنس والبهاء.

 

وبالإجمال، أقول: إنَّ الإنسان باحثٌ عن السعادة، واللذة، والمتعة، والأنس، والموافقات، ولكنّ الإنسان، كما يذكر علماءُ الأخلاق، له ثلاث مراتب من اللذة والمتعة:

 

المرتبة الأولى: اللذة البدنية المادية.

 

مأكل، مشرب، منكح، منام، ملائمات بدنية. وهذه يشاركنا فيها الحيوان، لأنّ الحيوانات كلها تتحرك في هذا الصعيد، تسعى لتحصيل المأكل والمشرب وسائر الملذّات. وهي بلا شك ضروريةٌ ومهمةٌ، ومقوِّمةٌ للبدن بمستوى معين، وبنسبةٍ معينة.

 

المرتبة الثانية: اللذة العلمية والمعرفية.

 

وهي أن يستنير الإنسان. ولذا فإنّ الإنسان لا يُحبّ الكذب، لا لأنّه فقط خلافُ الواقع، بل لأنه ظلمةٌ، والإنسان بطبعه باحثٌ عن إدراك الواقع، سواء على مستوى فهم هذا الكون، أو معرفة تفاصيل جزئيات الأمور – كالعلوم الحديثة وما شابه. وكلّما أحاط الإنسان بهذه المعارف، كلّما تنوّرت روحه وتسامت.

 

وهذه – كما يُقال – من ألذّ اللذّات. وقد نُقل عن بعض العلماء أنه كان يقول:  "أين الملوك؟ وأين أبناء الملوك عن مثل هذه اللذّات؟!".

 

لكن هذا النوع من اللذّات يشارك فيه الكافرُ المؤمن، فهو ليس خاصًّا بالمؤمنين، فكثير من مناحي هذه المعرفة يُساهم فيها حتى الكافر.

 

المرتبة الثالثة: لذة الروح.

 

وهي أوسع وأسمى وأجمل وأبهى.

لذة الاطمئنان.

 لذة السكينة.

 لذة الارتباط بالجبار.

 لذة العافية الحقيقية.

 

هذه اللذة لا يتذوقها إلا من عاش هذه المعاني.

ولذلك، نستعين في توصيفها بأهلها، وهم العارفون بالله، وفي مقدّمتهم: أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام.

 

أميرُ المؤمنين (عليه السلام) في توصيفه لنفوس المتقين، يقول عنهم: "المتقون هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع. غضّوا أبصارهم عمّا حرَّم الله عليهم، ووقَفوا أسماعَهم على العلم النافع لهم...".

 

ثم ينتقل إلى بناء أنفسهم فيقول: "نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، معتدلين مزاجهم، لا تختلف عليهم الظروف والأحوال، إن اتسعت بهم الأمور أو ضاقت، أنفسهم ثابتة معتدلة". على خلاف كثير من الناس، الذين إن أصابتهم مصيبة جزعوا، وإن حصل ما لا يُلائمهم، كفروا.

 

يصفهم الإمام (عليه السلام): "ولولا الأجل الذي كَتَب اللهُ عليهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفةَ عين، شوقًا إلى الثواب، وخوفًا من العقاب".

 

هذه أرواح شفافة، رقيقة، لا تعيش هذا العالم، بل تعيش في أفقٍ آخر، عالمٍ آخر، عالمٍ واسعٍ رحبٍ، يستوعب هذه الأحاسيس والمشاعر.

 

ويُكمل أمير المؤمنين (عليه السلام): "عظُم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم النار كمن قد رآها، فهم فيها معذَّبون. قلوبهم محزونة، شرورهم مأمونة، أجسادهم نحيفة، حاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أيامًا قصيرة، فعاقبتهم راحةٌ طويلة، تجارةٌ رابحة، يسّرها لهم ربُّهم. أرادتهم الدنيا فلم يُريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها".

 

أما الليل، فيُصوّر الإمام عليه السلام تهجّدهم وبكاءهم، ولكن هذا مقام طويل، نكتفي منه بهذا المقدار لضيق الوقت.

 

والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمدٍ وآلهِ الطيبين الطاهرين.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد