خصال منطقة التقوى وخصائصها:
الخصلة الأولى: أنها تنسجم مع فطرة الإنسان، فإن اللّه تعالى هو الذي ركب فطرة الإنسان وخلقها، وهو أعلم بها من غيره، وهو الذي شرع هذا الدين ورسم للإنسان حدود الحلال والحرام.
ومن الطبيعي أن تكون هذه الحدود التي شرعها اللّه منسجمة مع الفطرة التي خلقها. يقول تعالى عن التطابق بين فطرة الإنسان ودين اللّه: ﴿ ... فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ... ﴾ 45.
فإذا استسلم الإنسان للهوى وخرج من حدود اللّه تعالى كانت مصيبته الأولى في نفسه، وهي محنة التناقض وعدم الانسجام بين حياته التي يعيشها والفطرة التي ركبها اللّه تعالى فيه.
الخصلة الثانية : أنها منطقة آمنة لا يخترقها الشيطان ولا ينفذ إليها الهوى.
وإذا حصّن الإنسان نفسه بحدود اللّه تعالى فلم يتجاوزها، أمِن من سلطان الشيطان على نفسه ومن نفوذ الهوى. يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ 46.
فلا يستطيع الشيطان أن يقتحم عليهم حدود اللّه التي تحصّنوا بها وإنما يمسّهم من بعيد طائف منه، فإذا مسّهم من الشيطان طائف تذكروا سريعاً، وكأنّ إنذاراً مبكراً ينذرهم ويبصّرهم بالعدو ليأخذوا حذرهم منه.
وبعكس ذلك فإن المنطقة الخارجة عن حدود اللّه تعالى منطقة غير أمينة وغير حصينة، ومعرّضة لغزو الهوى والشيطان.
والإنسان في هذه المنطقة مكشوف تماماً لغزو الهوى والشيطان. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "اعلموا عباد اللّه أن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله، ولا يحرز من لجأ إليه" 47.
ويقول (عليه السلام): "إن التقوى في اليوم الحرز والجُنَّة، وفي غد الطريق إلى الجنة" 48.
وعنه (عليه السلام) أيضاً: "التقوى حصن حصين لمن لجأ إليه" 44.
وعنه (عليه السلام) أيضاً: "التقوى حرز لمن عمل بها" 44.
وعنه (عليه السلام) أيضاً: "أمنع حصون الدين التقوى" 44.
وعنه (عليه السلام) أيضاً: "الجأوا إلى التقوى فإنه (49) جُنَّة من لجأ إليها حصّنته، ومن اعتصم بها عصمته" 44.
والتقوى ضمن حدود اللّه تعالى في الحلال والحرام، وهي دار حصن عزيز كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام).
والحصن العزيز هو الحصن الذي لا يتمكن العدو من النفوذ فيه.
والفجور ـ وهو تجاوز حدود اللّه تعالى ـ دار حصن ذليل كما يقول (عليه السلام) والحصن الذليل هو الذي يسهل للعدو النفوذ فيه، والتسلق إليه.
إذن منطقة (الفجور) منطقة مكشوفة للشيطان والهوى، ومنطقة (التقوى) منطقة منيعة ومحمية وأمينة، لا يستطيع الشيطان أن يخترقها وينفذ إليها.
الخصلة الثالثة: وليس شيء كالالتزام بحدود اللّه تعالى يقرّب الإنسان إلى اللّه تعالى.
وليس شيء يبعد الإنسان عن اللّه ويحجبه عنه تعالى مثل العصيان وتجاوز حدود اللّه.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الوصية بالتقوى: "أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه التي هي الزاد وبها المعاذ، زادٌ مُبلغ، ومعاذٌ مُنجح" 50.
وفي هذه الوصية يصف الإمام (عليه السلام) التقوى بوصفه (معاذ) يعيذ الإنسان من الشيطان، و(زاد) يوصل الإنسان إلى اللّه.
والتقوى معاذ مُنجح كما يقول الإمام (عليه السلام) وزاد مُبلغ يبلغ الإنسان إلى اللّه، والطريق إلى اللّه شاق وعسير وطويل، ولابد في هذا الطريق من زاد وخير الزاد التقوى.
يقول تعالى: ﴿ ... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ... ﴾ 51.
وبالمضمون نفسه يُحدثنا أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً عن التقوى. يقول (عليه السلام): "إن لتقوى اللّه حبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذورته" 44.
إن التقوى تشد الإنسان باللّه تعالى شدّاً وثيقاً، فهي حبل وثيق عروته كما يقول الإمام (عليه السلام)، وفي الوقت نفسه هي معقل منيع لا يستطيع الشيطان أن يقتحمه ولا أن ينفذ فيه.
الخصلة الرابعة: أن في التقوى سعة، وفي الفجور ضيقً، فإن مساحة حدود اللّه تسع الناس جميعاً، وتمكنهم من حقوقهم ومن الحياة الكريمة، بينما يضيق الظلم والفجور بالناس حتى بشخص الظالم الذي يمارس الظلم ويتجاوز حدود اللّه تعالى، فإن الظلم الذي يمارسه الظالم لا محالة يرجع إليه بصورة أو أخرى. يقول تعالى: ﴿ ... وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ 22.
والعلاقة بين الظلم الصادر من الظالم للآخرين والظلم العائد إليه من أسرار هذا الدين، وليس هنا مجال الحديث عنه.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، فإن الظالم حيث يسلب الأمن والتقوى من المجتمع يسلب الأمن من نفسه بالضرورة، لأنه عضو في المجتمع نفسه، ينعم بما ينعم به الآخرون، ويشقى بما يشقى به الآخرون.
ولذلك يقول تعالى عن قصاص القاتل: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ... ﴾ 52.
ورغم أن في القصاص هلاك القاتل وقتله، ولكن في هذا الهلاك حياة المجتمع وسلامته.
والقصاص حدّ من حدود اللّه، فإذا التزم الناس بهذا الحد الإلهي عاش الناس جميعاً في أمان وسلام، وإذا تخطوا هذا الحدّ فقدوا جميعاً الأمن والسلام في حياتهم.
وهذه (الحياة) هي التي يذكرها اللّه في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ...﴾ 53.
ففي هذه الدعوة حياة المجتمع وإن كان يتضرر فيها الفرد أحياناً، إلاّ أنه لا قيمة لمصلحة الفرد إذا كانت تضر بمصلحة المجتمع.
والمنطقة الداخلة ضمن حدود اللّه تسع الناس جميعاً، وبوسع الناس جميعاً أن يعيشوا في هذه المنطقة ضمن حدود اللّه، وأن ينعموا فيها بالأمن والسلام في دنياهم وآخرتهم.
وإذا وجد أحد في هذه المنطقة (الواسعة) ضيقاً، فخرج منها متعدّياً حدود اللّه، وهو يتصوّر أن في تجاوز حدود اللّه سعة، فسوف يضيق به الظلم هذه المرة، وسوف يكون الظلم أضيق به من العدل.
وهذه من حقائق هذا الدين وأسراره. يقول تعالى: ﴿ ... وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ... ﴾ 23.
إن الذي يتعدى حدود اللّه ليوسع على نفسه، فقد ظلم نفسه ـ كما يقول القرآن ـ وإن أوهمته أهواؤه أنه خرج بذلك من ضيق العدل إلى سعة الظلم، فإن هذا الظلم يصيبه أكثر مما يصيب الآخرين ـ ويهدم فطرته وضميره ـ أولاً، وهو خسارة فادحة في شخصية الإنسان ويحجبه عن اللّه تعالى ثانياً، وهي خسارة أفدح من الخسارة الأولى، ويعود عليه الظلم ثالثاً، فإن الأمن الذي سلبه من المجتمع والفجور الذي مكنه من المجتمع يمسّه أيضاً كما يمس الآخرين، فإن الناس ينعمون جميعاً بالأمن ويشقون بالظلم، ولا يخرج الظالم نفسه من هذه القاعدة.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في سياق الثورة الاجتماعية والإدارية، التي قام بها بعد مصرع الخليفة الثالث عثمان بن عفان في الأمر بالعدل والمنع من الظلم: "فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالظلم عليه أضيق" 54.
وقد أعلن الإمام هذه الحقيقة للناس عندما وجد بعض الناس في سياسة الإمام (عليه السلام) المالية ضيقاً، بالقياس إلى ما كانوا يجدونه في سياسة عثمان بن عفان من قبل من الإسراف في الأموال، فبين لهم الإمام أن الذي يجد في العدل ضيقاً ويتجاوز العدل إلى الظلم ليوسع على نفسه، سوف يضيق بالظلم، أكثر مما ضاق بالعدل، ويكون الظلم أضيق عليه من العدل.
ونحن لا نعرف، هل كان الناس الذين خاطبهم الإمام (عليه السلام) يومئذ بهذا الخطاب يعرفون عمق هذا المفهوم الذي ألقاه (عليه السلام) يومئذ أم لا؟ ولكننا نعلم أن الإمام (عليه السلام) ألقى إليهم يومئذ مفهوماً من أعمق مفاهيم هذا الدين.
فرغم أن منطقة (الرخصة) في هذا الدين محدودة بحدود اللّه، من كل جانب، كان في هذه المنطقة سعة للناس جميعاً، ومن ضاق عليه العدل والتقوى على سعتهما، فسوف يضيق به الظلم والفجور لا محالة.
الخصلة الخامسة: التيسير والتسهيل: إن الحياة في المساحة التي تدخل ضمن حدود اللّه حياة مباركة، كثيرة البركات، ميسّرة بعيدة عن التعقيدات، وعكس ذلك العيش خارج حدود التقوى، فهو مقرون بالعسر والضنك والشدة والتعقيد.
وقد قسّم اللّه تعالى للناس من الرحمة والبركة والفرج والتيسير والتسهيل في دائرة التقوى، وضمن حدود اللّه ما لا يرزقه أحداً خارج هذه المساحة.
وإليك بعض الشواهد على ذلك من كتاب اللّه:
أ ـ أن اللّه تعالى يفتح للناس بالتقوى أبواب الرحمة والبركة من الأرض والسماء. يقول تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ 55.
ب ـ ويرزقهم بالتقوى من حيث لا يحتسبون. يقول تعالى: ﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ... ﴾ 42.
والذي يجعل اللّه له بالتقوى مخرجاً من كل ضيق، ورزقاً من كل فقر من حيث لا يحتسب، لا يواجه في حياته فقراً وبؤساً ولا يواجه طريقاً مسدوداً.
ج ـ ويجعل اللّه تعالى لهم من أمرهم يسراً كلما واجهوا في حياتهم عسراً شدّة. يقول تعالى: ﴿ ... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ 56.
د ـ ويجعل اللّه تعالى للناس في حياتهم بالتقوى فرجاً من كل ضيق، ومهما ضاقت عليهم مسالك الحياة فرّجها اللّه تعالى لهم بالتقوى. يقول تعالى: ﴿ ... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾ 41.
وروى عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله ): "ولو أن السموات والأرض كانتا رتقاً على عبد ثمّ اتقى اللّه لجعل له منه فرجاً و مخرجاً" 57.
ولما ودع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أبا ذر (رحمه الله) عندما نفاه الخليفة الثالث إلى الربذة قال له: "يا أباذر، إنك غضبت للّه فارجُ من غضبت له ... ولو أن السموات والأرضين كانتا على عبد رتقاً ثم اتقى اللّه لجعل اللّه له فيهما مخرجاً. لا يؤنسنك إلاّ الحق، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل".
وعن الإمام الجواد (عليه السلام): "إن اللّه يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله، ويجلي بالتقوى عنه غماه وجهله، وبالتقوى نجا نوح ومن معه في السفينة، وصالح و من معه من الصاعقة" 58.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
45. القران الكريم : سورة الروم ( 30 ) ، الآية : 30 ، الصفحة : 407 .
46. a. b. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 201 ، الصفحة : 176 .
47. نهج البلاغة : خطبة ، 157 .
48. مستدرك نهج البلاغة : خطبة ، 190 .
49. كذا ورد في المصدر ، و هو إما اشتباه في النقل ، لان التقوى مؤنثة ، و الصواب " فإنها " ، و أما أن يكون الضمير عائداً إلى المصدر ( اللجوء ) المفهوم من " إلجأوا " ، أي " فإن اللجوء إلى التقوى " الخ .
50. نهج البلاغة : خطبة ، 114 .
51. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 197 ، الصفحة : 31 .
52. a. b. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 179 ، الصفحة : 27 .
53. القران الكريم : سورة الأنفال ( 8 ) ، الآية : 24 ، الصفحة : 179 .
54. نهج البلاغة : خطبة ، 15 .
55. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 96 ، الصفحة : 163 .
56. القران الكريم : سورة الطلاق ( 65 ) ، الآية : 4 ، الصفحة : 558 .
57. بحار الأنوار : 70 : 285 .
58. بحار الأنوار : 78 / 359 .
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان